للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو في حقيقتِهِ يترقَّبُ السُّوقَ، ويَعرِفُ أسعارَهُ كلَّ عامٍ، ويتحيَّنُ الأصلَحَ له منها، كما يتحيَّنُ عارِضُ السِّلْعةِ للناسِ الثَّمَنَ الذي يُريدُهُ، والفرقُ بينَهما أنَّ المُحتكِرَ لم يَعرِضْ سِلْعَتَهُ بعَيْنِها، ولكنْ يَرقُبُ أمثالَها في السُّوق، فإنْ كان سِعْرُها جَيِّدًا أخرَجَها، وأمَّا المديرُ للسِّلْعة، فيَعْرِضُها بعَيْنِها، وكِلاهما يُريدُ البيعَ ويتحيَّنُ سِعْرًا يُناسبُه.

واستُدِلَّ بأثَرٍ عامٍّ على عدَمِ وجوبِ الزكاةِ في العروضِ المُحتكَرة، غيرِ المُدارةِ؛ وهو ما رواهُ ابنُ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ؛ قال: "لا زكاةَ في عَرْضٍ لا يُدارُ، إلَّا الذَّهَبَ والفِضَّةَ" (١).

فلا يَظهَرُ أنه يَقصِدُ المالَ المُحتكَرَ الذي يَنتظِرُ به صاحبُهُ الغَلَاءَ؛ فهذا مُدارٌ لكنَّ دَوَرَانَهُ بعيدٌ، والتُّجَّارُ منهم مَن يُديرُ المالَ في اليوم، ومنهم في الأسبوع، ومنهم في الشَّهْرِ والحَوْل، وأكثَرَ مِن ذلك، حسَبَ ما يَربَحونَ، وإنَّما قصدَ عطاءٌ العَرْضَ الذي يُشتَرى ولا يُرادُ به إدارتُهُ للتِّجارةِ؛ فلا زكاةَ فيه؛ وهذا القولُ ليس في شُيُوخِ عَطَاءٍ ولا في أقرانِه، ولا يُحفَظُ هذا مِن وجهٍ صريحٍ صحيحٍ إلَّا عن طاوُسٍ؛ كما رَوَاهُ عنه ابنُهُ، وقد أنكَرَهُ عبدُ الرزَّاقِ عليه، فقال: "اسمٌ لا أُحِبُّ أنْ أقولَهُ: يَنتظِرُ به الغَلاءَ" (٢).

ثم إنَّ مُدَّةَ احتكارِ السِّلَعِ تَختلِفُ بحسَبِ حاجةِ الناسِ إليها؛ فمنها: ما يُحتكَرُ شهرًا، ومنها: ما يُحتكَرُ فصلًا؛ يَنتظِرُ فيه صيفًا أو شتاءً، أو سَلْمًا أو حَرْبًا، ومنها: ما يُحتكَرُ سَنَةً وسنَتَيْنِ وثلاثًا، وهذه الأَزْمِنةُ لا تَجعَلُ السِّلْعةَ غيرَ مُدارةٍ في عُرْفِهم، ومَن تأمَّلَ الأخبارَ المرويَّةَ عن عطاءٍ يَجِدُ أنه يُسألُ عن العَرْضِ الذي لا يُدَارُ؛ يَعْنُونَ به المَتَاعَ وما يُقتَنى


(١) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (٧١٠٢).
(٢) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (٧٠٩٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>