مِن بهيمةِ الأنعامِ لحِكْمةِ اللهُ أعلَمُ بها، وقد يكونُ منها أنَّ الناقةَ التي ليس معها مالكٌ لها لا تكونُ ضالَّةً كما هي الغَنَمُ والبقرُ، وأنَّ هذا عُرْفٌ قديمٌ يَعرِفُهُ الناسُ، وحتى لا يكونَ لأحدٍ بابٌ مِن الهَوى فيَزعُمَ أنَّ له الحقَّ في أخْذِها والأمساكِ بها وتملُّكِها؛ لأنَّها لا تقومُ بنفسِها؛ فهي إمَّا لمُلتقِطِها أو لأخيهِ أو للذِّئْبِ؛ ولهذا غَضِبَ النبيُّ ﷺ لمَّا سُئِلَ عن ضالَّةِ الإبلِ؛ كما رَوَى الشيخانِ؛ مِن حديثِ زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ ﵁؛ قال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ ﷺ، فَسَألَهُ عَمَّا يَنتَقِطُهُ، فَقَالَ:(عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإنْ جَاءَ أحَدٌ يُخبِرُكَ بهَا، وَإِلَّا فَاستَنْفِقْهَا)، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، فَضَالَّة الغَنَم؟ قَالَ:(لَكَ، أوْ لِأَخِيكَ، أَو لِلذِّئْبِ)، قَالَ: ضَالَّةُ الإِبِلِ؟ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبيِّ ﷺ، فَقَالَ:(مَا لَكَ وَلَهَا؟ ! مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا، تَرِدُ المَاء، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ)(١).
وتمعَّرَ وجهُ النبيِّ ﷺ لأنَّ السائلَ أعرابيُّ يَعرِفُ الإبلَ، والأعرابُ أعلَمُ الناسِ بما للإبلِ مِن خصيصةِ السَّيْرِ وحدَها، والاستغناءِ بما جعَلَهُ اللهُ فيها مِن قُدْرةِ وتحمُّلِ وصبرٍ، وكأنَّه يَسألُ ليَلتقِطَ عن عِلْمٍ، والواجبُ في مثلِهِ ألَّا يُسألَ عنه.
وقد اختلَفَ العلماءُ في البقرِ؛ فمِنهم: مَن ألحَقَها بالإبلِ؛ كالشافعيِّ وأحمدَ، ومنهم: مَن فرَّقَ وجعَلَ الأمرَ بحسَبِ حالِها ومَوْضِعِها الذي هي فيه؛ إن كانتْ تُشابِهُ الإبلَ في أمْنِها وفي استِقلالِها بنفسِها بأكلِها وشُرْبِها، أخَذَتْ حُكمَها، وإنْ شابَهَتِ الغنمَ في ذلك، أخَذَتْ حُكْمَها؛ وهذا رواهُ ابنُ وهب عن مالك، ومنهم: مَن جعَلَ البقرَ كالغنمِ بكلِّ حالٍ.