للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٩]، وَلَمْ يَكُنْ سَقِيمًا، وَقَوْلِهِ لِسَارَةَ: أُخْتِي، وَقَوْلِهِ: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ " (١).

ومَن نظَرَ في أقوالِ إبراهيمَ ، وجَدَ أنَّها مَعاريضُ, وإنَّما سُمِّيَتْ كذبًا؛ لكونِها تُفهَمُ مِن السامعِ على خلاف مُرادِ المتكلِّمِ، وأنَّ منها ما هو في جَنْبِ اللَّهِ:

أولُها: قولُه: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾؛ فإنَّ إبراهيمَ يَعلَمُ -وقومُهُ مِثلُهُ- أنَّ الأصنامَ لا تَنطِقُ ولا تَنتصِرُ لنفسِها؛ وإنَّما قال هذا القولَ؛ لِيَرْجِعَهُمْ إلى أنفُسِهم، فيتفكَّروا فيما غفَلُوا عنه.

وإحقاقُ الحقِّ بالمعاريضِ جائزٌ، بل مشروعٌ؛ ومِن ذلك قولُ يوسُفَ : ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ [يوسف: ٧٠].

ومِن جنسِهِ قولُهُ: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٦]؛ يُريدُ منهم التفكُّرَ والتأمُّلَ؛ فقاله ليُراجِعُوا أنفُسَهُمْ، وليس مُقِرًّا به ليأخُذُوا ذلك عنه، وهو شبيهٌ بالتنزُّلِ مع الخَصْمِ الذي يَعلَمُ أنَّك لا تُقِرُّ بما معه إلَّا تنزُّلًا؛ لتَصِلَ إلى غايةٍ يتَّضِحُ منها الحقُّ والباطلُ، ولا يُوقَف عندَ مبتدًى يَفْصِلُ المناظرةَ بلا حقٍّ ولا باطلٍ.

ورُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ؛ أنَّه عبَدَهُ حتى أفَلَ (٢)؛ وهذا مُنكَرٌ؛ فالنبيُّ حينَما عَدَّ هذه مِن معاريضِ إبراهيمَ، دَلَّ على أنَّها لم تكنْ على الحقيقةِ؛ وإنَّما باطنُها يُخالِفُ ظاهِرَها، ولو كانتْ على ظاهرِها وعبَدَ الكَوْكَبَ حتى أفَلَ، لم يكنْ لتسميةِ قولِه: (هَذَا رَبِّي) كذبًا - معنًى؛ لأنَّه شِرْكٌ؛ وهذا لا يصحُّ من إبراهيمَ.


(١) أخرجه الترمذي (٣١٦٦).
(٢) "تفسير الطبري" (٩/ ٣٥٦)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٤/ ١٣٢٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>