للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهو مأجورٌ؛ وذلك لِما في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ عمرِو بنِ العاصِ؛ أنَّه سمِع رسولَ اللَّهِ يقولُ: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ, فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ) (١).

ولا يجوزُ لأحدٍ أن يقضيَ في مسألةٍ برأيِه إلَّا بشروطٍ:

الأولُ: أن يكونَ عالمًا يَملِكُ آلةَ الاجتهادِ بما يَقضي فيه؛ ولهذا وصَفَ النبيُّ المجتهِدَ المأجورَ بـ (الحاكمِ)؛ يعني: الذي يَعرِفُ مفاصلَ الحُكْمِ ومقاطِعَ الحقوقِ وأدلَّتَها، ولا يسمَّى حاكمًا إلَّا وقد تأهَّلَ للحُكْمِ، ومَن تكلَّمَ بأمرٍ مِن غيرِ تأهُّلٍ فيه، فهو خارِصٌ لا حاكِمٌ، وكذلك فإنَّ اللَّهَ قال عن داودَ وسليمانَ مبيِّنًا سببَ تأهُّلِهما للحُكْمِ: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾.

الثاني: أن يَستفرغَ وُسْعَهُ باجتهادِه؛ فإنَّ العالِمَ لا يَلزَمُ مِن كونِه عالمًا أن يُطلِقَ الحُكْمَ مِن غيرِ تأمُّلٍ وتفكُّرٍ واستفراغٍ للوُسْعِ؛ بجمعِ الأدلَّةِ وعَرْضِها وتميزِها، ومعرفةٍ لِما ورَدَ مِن الأدلَّةِ وما لم يَرِدْ، وبالنظر في دَلَالاتِ النصوص وهل حسَمَ الشارعُ المسألةَ بنصٍّ قطعيٍّ أو ظنيٍّ أو ترَكَها؛ فإنَّ النبيَّ قال: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ)؛ يعني: أنَّه أفرَغَ وُسْعَهُ ولم يتكلَّمْ بخَرْصٍ، ففد يتساوى العالِمُ بالجاهلِ عندَ خَرْصِه، فلا فَرْقَ بينَ جاهلٍ يجتهِدُ وعالِمِ خارِصٍ؛ فكلاهُما قال بغيرِ عِلْمٍ، وفي "السُّننِ"؛ قال النبيُّ : (الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ؛ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ) (٢).


(١) أخرجه البخاري (٧٣٥٢)، ومسلم (١٧١٦).
(٢) أخرجه أبو داود (٣٥٧٣)، والترمذي (١٣٢٢)، والنسائي فى "السنن الكبرى" (٥٨٩١)، وابن ماجه (٢٣١٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>