للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يَملِكونَ ذلك، بل يجبُ عليهم حِفظُهُ والتمكينُ له، وأن يتجرَّدُوا مِن الجُبْنِ فلا يتظاهَروا بالحِكْمةِ، وأن يتجرَّدوا مِن التهوُّرِ والعَجَلةِ والانتقامِ للنَّفْسِ فلا يتظاهَروا بالشجاعةِ، وقد يقَعُ في النفوسِ الصادقةِ حبٌّ عظيمٌ للحقَّ فتستعجِلُ الانتصارَ له، بل يجبُ عليها التجرُّدُ والوقوفُ عندَ أوامرِ اللَّهِ وحدودِه، والنظرُ إلى العواقبِ بتجرُّدٍ، كما تجرَّدَ الصحابةُ عندَما وجَدُو مِن أنفسِهم حبًّا للحقِّ عظيمًا، فاستأذَنُوا للانتقامِ مِن عدوِّهم مِن أولِ يومٍ بمَكَّةَ؛ كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ [النساء: ٧٧] ويُروى أنَّه لمَّا بايَعَ أهلُ يَثْرِبَ ليلةَ العَقَبةِ رسولَ اللَّهِ ، وكانوا نيِّفًا وثمانينَ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، ألَا نَمِيلُ على أهلِ الوادي -يَعْنُونَ أهلَ مِنًى- لياليَ مِنًى فنَقتُلَهم؟ فقال رسولُ اللَّهِ : (إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِهَذَا) (١).

وقولُه تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾، بيَّنَ اللَّهُ فيه: أنَّ المقصودَ بأولئك المظلومينَ الذين يُقاتَلونَ هم الذين أُخرِجوا مِن ديارِهم، وهي مَكَّةُ، بغيرِ حقٍّ، إلَّا أنَّهم وحَّدوا اللَّهَ وعَبَدُوهُ بلا شريكٍ.

وقولُه تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾، فيه: أنَّ اللَّهَ يَدفَعُ المشرِكِينَ بالمؤمِنينَ ليُقيمَ دِيَنَهُ ويُعْلِيَ ذِكْرَه، وفي هذا: بيانٌ للمَقصَدِ مِن الجهادِ، وهو إعلاءُ كلمةِ اللَّهِ؛ كما قال : (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيِلِ اللَّهِ) (٢).

وتدُلُّ هذه الآبةُ على أنَّه يجوزُ القتالُ لدَفْعِ الإنسانِ عن أرضِهِ، وأنَّه


(١) "تفسير ابن كثير" (٥/ ٤٣٤)، و"سيرة ابن هشام" (١/ ٤٤٨).
(٢) أخرجه البخاري (٣٨١٠)، ومسلم (١٩٠٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>