للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومِن ذلك قولُهُ تعالى: ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ [النور: ٥٥]، وقد قال اللَّهُ عن تمكينِ قريشٍ: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [القصص: ٥٧]، فقد كان لكفارِ قريشٍ تمكينُ أرضٍ، لكنْ ليس لدَيْهِمْ تمكينٌ مِن العملِ الصالحِ، وقد كان للنبيِّ تمكينٌ مِن العملِ الصالحِ، ولكنْ ليس لدَيْهِ تمكينٌ في أرضِ مَكَّةَ حِينَها، فلم يُؤمَرْ بإقامةِ كثيرٍ مِن التكاليفِ؛ لأنَّ قدْرَ التمكينِ أقصَرُ منها، فقُصِرَتِ التكاليفُ معها، ولو اجتمَعَ التمكينانِ له، لأُمِرَ بإقامةِ شعائرِ اللَّهِ كلِّها في مكَّةَ كما أقامَها في المدينةِ.

الشرطُ الثالثُ: الأخذُ بأسبابِ الناسِ حتى ينقادوا أمرًا ونهيًا؛ رغبةً أو رهبةً، ومِن هذا تمكينُ النبيِّ في المدينةِ، فقد تمكَّنَ في الأرضِ أولَ قدومِهِ وأَمِنَ فيها، ولم يكنِ الناسُ كلُّهم على انقيادٍ تامٍّ فيها، وإنَّما تدرَّجَ تمكينُه، ومع تدرُّجِ تمكينِه تدرَّجَ تكليفُه؛ ولهذا نزَلَتْ عليه الشرائعُ والأحكامُ والحدودُ تِبَاعًا.

وقد يتحقَّقُ لسلطانٍ أو قومٍ أحدُ شروطِ التمكينِ ويَفقِدُ غيرَها، فلا يكونُ متحقِّقَ التمكينِ، وذلك كحالِ النَّجَاشِيِّ في الحبشةِ؛ فقد كان مَلِكًا على الحبشةِ، له البَسْطةُ على أرضِها والانتفاعُ منها، وآمِنًا فيها؛ لكنَّه لا يَملِكُ الأخذَ بأسبابِ الناسِ أمرًا ونهيًا في الحقِّ، فقد جاءَهُ الحقُّ وآمَنَ به وحدَه، وأُمَّتُهُ كلُّها نصرانيِّةٌ، فلو أمَرَهُمْ ونهاهُم، لَمَا أطاقوا أمرَهُ، ولقاموا عليه، فأسلَمَ وكتَمَ إيمانَه، ولم يُعادِ الحقَّ وأهلَه، بل نصَرَهُمْ، وعذَرَهُ اللَّهُ لعدمِ تمامِ تمكينِةِ بالحقِّ، ولو كان مستوفِيًا تمامَ التمكينِ، لم يكنْ معذورًا عندَ اللَّهِ، فلمَّا عُذِرَ، دَلَّ على أنَّه صحَّ إسلامُهُ وعُذِرَ بما ترَكَ لعَجْزِه، وهذا يختلِفُ عمَّن كان ممكَّنًا بالحقِّ ولكنَّه أكرَهَ الناسَ على الباطلِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>