وقد يكونُ لأحدٍ تمكينٌ كاملٌ وأخذٌ بأسبابِ الأرضِ والناسِ جميعًا، وهذا مِن جنسِ تمكينٌ اللَّهِ لذي القَرْنَيْنِ؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (٨٤)﴾ [الكهف: ٨٤].
وبتمامِ التمكينِ تقومُ شرائعُ كثيرةٌ، وبنقصِهِ يُعذَرُ العاجزونَ عنها، كما يُعذَرُ العبدُ في نفسِه في أداءِ الصلاةِ قائمًا لمرضٍ، فيُصلِّيها قاعدًا أو على جَنْبٍ.
وفي قولِه تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾: ذِكْرٌ لأسبابِ دوامِ التمكينِ وحِفْظِه، فما مِن أحدٍ يُتِمُّ اللَّهُ له تمكينَهُ، ثمَّ يقومُ بحِفظِ شعيرةِ الصلاةِ في نفسِهِ وفي الناسِ كما أمَرَ اللَّهُ، ويأخُذُ الزكاةَ ويَقسِمُها بالعدلِ كما أمَرَ اللَّهُ، ويأمُرُ ويَنهَى على ما أمَرَ اللَّهُ، إلَّا دامَ تمكينُهُ بمقدارِ حِفْظِهِ لهذه الثلاثةِ، ويَنقُصُ تمكينُهُ بمقدارِ نقصِها، ومَن أقامَ التكاليفَ أكثَرَ مِن قدرِ التمكينِ له في الأرضِ، لم يَدُمْ تمكينُه، وقد يظُنُّ فيه بعضُ المُنافِقِينَ والظالِمِينَ أنَّه لم يُمكَّنْ إلَّا بسببِ عدمِ صلاحِ شريعتِهِ ودِينِه، وإنَّما هو بسببِ تعجُّلِ التكليفِ قبلَ التمكينِ، ففَتَنَ الناسَ وصرَفَهُمْ عن الحقِّ، فأساؤُوا الظنَّ به، فهزائمُ أهلِ الحقِّ فتنةٌ لأهلِ الباطلِ بثباتِهم على باطلِهم؛ وفي هذا يقولُ تعالى: ﴿فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: ٨٥]؛ قال مجاهدٌ في معناهُ:"لا تُصِبْنا بعذابٍ مِن عندِك ولا بإيدِيهِم، فيُفتَتَنُوا ويقولوا: لو كانوا على حقٍّ، ما سُلَّطْنا عليهم ولا عُذِّبُوا"(١).