للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يُسمعْ بِالأَنْدَلُسِ أَخطبُ مِنْهُ، وَكَانَ أَعلمَ النَّاسِ بِاخْتِلاَفِ العُلَمَاءِ، شَاعِراً لبيباً أَدِيباً، لَهُ تَصَانِيْف حسَانٌ جِدّاً، وَكَانَ مَذهَبُهُ النَّظَرَ وَالجَدَلَ، يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِ دَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ.

وَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بنُ حَارثٍ القَرَوِيِّ، فَقَالَ: كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّفَاذِ وَالتَّحْصِيْلِ، مُتدرِّباً للمنَاظرَةِ، مُتخلِّقاً بِالإِنصَافِ، جَيِّدَ الفَهْمِ، طَوِيْلَ العِلْمِ، بَلِيْغاً مُوجزاً، يَمِيْلُ إِلَى طُرُقِ الفضَائِلِ، وَيُوَالِي أَهلَهَا، وَيلهَجُ بِأَخْبَارِ الصَّالِحِيْنَ.

حَجَّ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلاَثِ مائَةٍ، فَأَقَامَ فِي رِحْلَتِهِ أَرْبَعينَ شهراً، وَانْصَرَفَ، فَأَدْخَلَ الأَنْدَلُسَ مِنْ عِلمِ النَّظَرِ وَمِنْ عِلمِ اللُّغَةِ كُتُباً كَثِيْرَةً.

وَامتَحَنَهُ النَّاصرُ بِغَيْرِ مَا أَمَانَةٍ، وَأَخرجَهُ رسولاً إِلَى غَيْرِ مَا وَجْهٍ، فَخَلُصَ محموداً، وَأَقَامَ بِمَا حَمَلَ مشكوراً، ثُمَّ وَلاَّهُ قَضَاءَ كورَةَ مَارِدَةَ (١) ، ثُمَّ وَلاَّهُ قَضَاءَ الثُّغُوْرِ الشَّرْقِيَّةِ كُلِّهَا، ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى قَضَاءِ القُضَاةِ، وَالصَّلاَةِ بِجَامعِ الزَّهرَاءِ.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ حَزْمٍ: أَخْبَرَنِي حَكَمُ بنُ مُنذرِ بنِ سَعِيْدٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهُ حَجَّ رَاجِلاً مَعَ قَوْمٍ رَجَّالَةٍ، فَانقَطَعُوا وَأَعوَزَهُمُ المَاءُ فِي الحِجَازِ وَتَاهُوا.

قَالَ: فَأَوَيْنَا إِلَى غَارٍ نَنْتَظِرُ المَوْتَ، فَوَضَعْتُ رَأْسِي مُلْصَقاً بِالجَبَلِ، فَإِذَا حجرٌ كَانَ فِي قُبَالَتِهِ، فَعَالَجْتُهُ، فَنَزَعْتُهُ، فَانبَعَثَ المَاءُ، فَشَرِبْنَا وَتَزَوَّدَنَا.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: حُدِّثْتُ أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ القَاضِي مُنْذِرَ بنَ سَعِيْدٍ فِي بَعْضِ الأَسحَارِ عَلَى دكَّانِ المَسْجَدِ، فَعَرفَهُ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: يَا


(١) ماردة: قال ياقوت: هي كورة واسعة من نواحي الأندلس، من أعمال قرطبة، وهي إحدى القواعد التى تخيرتها الملوك للسكن من القياصرة والروم، وهي مدينة رائقة، كثيرة الرخام، عالية البنيان، فيها آثار قديمة حسنة، تقصد للفرجة والتعجب: " معجم البلدان ": ٥ / ٣٨ - ٣٩.