للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الفِقْه، وَكَانَ وَرِعاً زَاهِداً، مُتَّقِياً سَديد الأَحكَام، وَلِيَ قَضَاءَ القُضَاةِ بَعْد أَبِي عَبْدِ اللهِ الدَّامغَانِي مُدَّةً إِلَى أَنْ تَغَيَّر عَلَيْهِ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ المُقْتدي، فَمَنَعَ الشُّهُودَ مِنْ حُضُوْرِ مَجْلِسه مُدَّةً، فَكَانَ يَقُوْلُ: مَا أَنْعزلُ مَا لَمْ يَتحقَّق عليَّ فِسْقٌ، ثُمَّ إِنَّ الْمُقْتَدِي رضِيَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ (١) .

وَشَهِدَ عِنْدَهُ المشطَّب الفَرْغَانِي (٢) ، فَلَمْ يَقبله، لِكَوْنِهِ يَلْبَسُ الحَرِيْرَ، فَقَالَ: تردُّنِي، وَالسُّلْطَانُ وَوزِيْرُهُ نِظَامُ المُلْك يَلْبَسَانِهِ؟!

فَقَالَ: وَلَوْ شَهِدَا، لَمَا قَبِلتُهُمَا (٣) .

قَالَ ابْنُ النَّجَّار: تَفَقَّهَ عَلَى القَاضِي أَبِي الطَّيِّب (٤) ، وَحَفِظَ تَعليقهَ، وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَى القَضَاءِ رِزْقاً، وَلاَ غَيَّرَ مَأْكَلَهُ وَلاَ مَلْبسَهُ، وَكَانَ يُسَوِّي بَيْنَ النَّاس، فَانقَلْب عَلَيْهِ الكُبَرَاء، وَكَانَ نَزِهاً وَرِعاً عَلَى طرِيقَة السَّلَف لَهُ كَارك (٥) يُؤجِّرُه كُلَّ شهرٍ بدِيْنَارٍ وَنِصْف، كَانَ يَقْتَاتُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَلِيَ القَضَاءَ، جَاءَ إِنْسَانٌ، فَدَفَعَ فِيْهِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيْر، فَأَبَى، وَقَالَ: لاَ أُغَيِّرُ سَاكِنِي، وَقَدِ ارْتبتُ بِكَ، هَلاَّ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ قَبْل القَضَاء (٦) ؟!


(١) طبقات السبكي: ٤ / ٢٠٢ - ٢٠٣.
(٢) هو أبو المظفر المشطب بن محمد بن أسامة بن زيد بن النعمان الفرغاني، من فرغانة ما وراء نهر جيحون، كان من فحول المناظرين، وكانت له يد باسطة في النظر والجدل، وكان مختلطا بالعسكر، وكان لا يفارقهم.
انظر " الأنساب ": ٩ / ٢٧٥.
(٣) المنتظم: ٩ / ٩٦، وابن الأثير: ١٠ / ٢٥٣، والسبكي: ٤ / ٢٠٤، ٢٠٥، وفيه عندهم: ولو شهدوا عندي في باقة بقل، ما قبلت شهادتهما.
(٤) هو طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الطبري البغدادي، وقد تقدمت ترجمته برقم (٤٦٢) في الجزء السابع عشر.
(٥) الكلمة فارسية، ومعناها: البيت كما يفهم من هذا السياق، وكذلك وردت عند السبكي: ٤ / ٢٠٥، وفي " المعجم الذهبي ": كارك: عمل صغير، وكاركاه: معمل، مصنع، دكان، قصر.
(٦) طبقات السبكي: ٤ / ٢٠٥.