للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سَنَةً وَنِصْفاً، وَقَيَّدُوْهُ وَغَلُّوْهُ، وَأَرَادُوْهُ عَلَى كلمَةِ الكُفْرِ، فَأَبَى، وَتَعَلَّمَ مِنْهُم الخطَّ الرُّوْمِيَّ.

سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: مَنْ خَدَمَ المحَابرَ، خَدَمَتْهُ المَنَابِرُ، يَجِبُ عَلَى المُعَلِّمِ أَنْ لاَ يُعَنِّفَ، وَعَلَى المتعلِّمِ أَنْ لاَ يَأْنفَ.

وَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ثَلاَثٍ وَتِسْعِيْنَ سَنَةً صَحِيْحَ الحوَاسِّ، لَمْ يَتغَيَّرْ مِنْهَا شَيْءٌ، ثَابِتَ العَقْلِ، يَقرَأُ الخطَّ الدَّقيقَ مِنْ بُعْدٍ، وَدخلنَا عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِمُدَيدَةٍ، فَقَالَ: سَالَتْ فِي أُذُنِي مَادَّةٌ، فَقَرَأَ عَلَيْنَا مِنْ حَدِيْثِهِ، وَبَقِيَ عَلَى هَذَا نَحْواً (١) مِنْ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ، ثُمَّ مرضَ، فَأَوْصَى أَنْ يُعمَّقَ قَبْره زِيَادَةً عَلَى العَادَة، وَأَنَّ يُكتبَ عَلَى قَبْرِهِ: {قُل: هُوَ نَبَأٌ عَظِيْمٌ أَنْتُم عَنْهُ مُعرِضُونَ} [ص: ٦٧ و٦٨] وَبَقِيَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ يَفتُرُ مِنْ قِرَاءة القُرْآنِ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ قَبْلَ الظُّهْر، ثَانِي رَجَب، سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلاَثِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ.

وَقَالَ السَّمْعَانِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَجْمَعَ لِلْفنُوْنِ مِنْهُ، نَظَرَ فِي كُلِّ علمٍ، فَبرعَ فِي الحسَابِ وَالفَرَائِضِ، سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ:

تُبتُ مِنْ كُلِّ علمٍ تَعلَّمتُهُ إِلاَّ الحَدِيْثَ وَعِلمَهُ، وَرَأَيْتهُ وَمَا تَغَيَّرَ عَلَيْهِ مِنْ حَوَاسِّهِ شَيْءٌ، وَكَانَ يَقرَأُ الخَطَّ البعيدَ الدَّقيق، وَكَانَ سرِيعَ النَّسْخِ، حَسَنَ القِرَاءة لِلْحَدِيْثِ، وَكَانَ يَشتَغِلُ بِمُطَالَعَة الأَجزَاءِ الَّتِي مَعِي، وَأَنَا مُكِبٌّ عَلَى القِرَاءةِ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ وَجَدَ جُزْءاً مِنْ حَدِيْثِ الخُزَاعِيِّ قَرَأْتُهُ بِالكُوْفَةِ عَلَى عُمَرَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ العَلَوِيِّ (٢) بِإِجَازتِهِ مِنْ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ العَلَوِيِّ، وَفِيْهِ حِكَايَاتٌ مليحَةٌ، فَقَالَ: دَعْهُ عِنْدِي.

فَرَجَعتُ مِنَ الغَدِ، فَأَخْرَجَهُ وَقَدْ نَسَخَهُ، وَقَالَ: اقْرَأْهُ حَتَّى أَسْمَعَهُ.

فَقُلْتُ: يَا سيِّدِي، كَيْفَ يَكُوْنُ هَذَا؟!

ثُمَّ قَرَأْتُهُ، فَقَالَ لِلْجَمَاعَةِ: اكتُبُوا اسْمِي.


(١) في الأصل نحو، والصواب ما أثبتناه.
(٢) سترد ترجمته في هذا الجزء برقم (٨٦) .