للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَعْجَمِيٌّ قُحٌّ أَخرسُ، أَتكلَّمُ عَلَى فُصَحَاءِ بَغْدَادَ؟!

فَقَالَ لِي: أَنْتَ حَفِظتَ الفِقْهَ، وَأُصُوْلَهُ، وَالخلاَفَ، وَالنَّحْوَ، وَاللُّغَةَ، وَتَفسيرَ القُرْآنِ، لاَ يَصلُحُ لَكَ أَنْ تَتكلَّمَ؟! اصعَدْ عَلَى الكُرْسِيِّ، وَتَكلَّمْ، فَإِنِّي أَرَى فِيكَ عِذْقاً سيصِيْرُ نَخْلَةً.

قَالَ الجُبَّائِيُّ: وَقَالَ لِي الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِرِ:

كُنْتُ أُومَرُ وَأُنْهَى فِي النَّوْمِ وَاليقظَةِ، وَكَانَ يغلبُ عَلَيَّ الكَلاَمُ، وَيزدحِمُ عَلَى قَلْبِي إِنْ لَمْ أَتكلَّمْ بِهِ حَتَّى أَكَادُ أَخْتنقُ وَلاَ أَقدرُ أَسكتُ، وَكَانَ يَجلسُ عِنْدِي رَجُلاَنِ وَثَلاَثَةٌ، ثُمَّ تَسَامعَ النَّاسُ بِي، وَازدحَمَ عَلَيَّ الخَلْقُ، حَتَّى صَارَ يَحضرُ مَجْلِسِي نَحْوٌ مِنْ سَبْعِيْنَ أَلْفاً.

وَقَالَ: فَتَّشْتُ الأَعْمَالَ كُلَّهَا، فَمَا وَجَدْتُ فِيْهَا أَفْضَلُ مِنْ إِطعَامِ الطَّعَامِ، أَودُّ لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا بِيَدِي فَأُطعِمَهَا الجيَاعَ، كَفِّي مثقوبَةٌ لاَ تضبطُ شَيْئاً، لَوْ جَاءنِي أَلفُ دِيْنَارٍ لَمْ أُبَيِّتْهَا.

وَكَانَ إِذَا جَاءهُ أَحَدٌ بِذَهَبٍ، يَقُوْلُ: ضَعْهُ تَحْتَ السَّجَّادَةِ.

وَقَالَ لِي: أَتَمَنَّى أَنْ أَكُوْنَ فِي الصَّحَارَى وَالبَرَارِي كَمَا كُنْتُ فِي الأَوّلِ، لاَ أَرَى الخَلْقَ وَلاَ يَرُوْنِي.

ثُمَّ قَالَ: أَرَادَ اللهُ مِنِّي مَنْفعَةَ الخلقِ، فَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيَّ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِ مائَةٍ، وَتَابَ عَلَى يَدَيَّ أَكْثَرُ مِنْ مائَةِ أَلْفٍ، وَهَذَا خَيْرٌ كَثِيْرٌ، وَتَرِدُ عَلَيَّ الأَثقَالُ الَّتِي لَوْ وُضِعَتْ عَلَى الجِبَالِ تَفَسَّخَتْ، فَأَضعُ جَنْبِي عَلَى الأَرْضِ، وَأَقُوْلُ: إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً، ثُمَّ أَرْفَعُ رَأْسِي وَقَدِ انفرَجَتْ عَنِّي.

وَقَالَ: إِذَا وُلِدَ لِي وَلدٌ أَخذتُهُ عَلَى يَدِي، وَأَقُوْلُ هَذَا مَيِّتٌ، فَأُخْرِجُهُ مِنْ قَلْبِي، فَإِذَا مَاتَ لَمْ يُؤثِّرْ عِنْدِي مَوْتُهُ شَيْئاً.

قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ابْنُ الشَّيْخِ: وُلِدَ لأَبِي تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُوْنَ وَلداً، سَبْعَةٌ وَعِشْرُوْنَ ذَكَراً، وَالبَاقِي إِنَاثٌ (١) .


(١) انظر " فوات الوفيات " ٢ / ٣٧٤.