وَيُمْكِنُ أَنْ نَذْكُرَ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ أَئِمَّةً عَلَى هَذَا النَّمَطِ إِلَى زَمَانِنَا، فَرَأْسُ المُحَدِّثِيْنَ اليَوْمَ: أَبُو الحَجَّاجِ القُضَاعِيُّ المِزِّيُّ (١) ، وَرَأْسُ الفُقَهَاءِ: القَاضِي شَرَفُ الدِّيْنِ البَارِزِيُّ، وَرَأْسُ المُقْرِئِيْنَ: جَمَاعَةٌ، وَرَأْسُ العَرَبِيَّةِ: أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ، وَرَأْسُ العُبَّادِ: الشَّيْخُ عَلِيٌّ الوَاسِطِيُّ، فَفِي النَّاسِ بَقَايَا خَيْرٍ، وَللهِ الحَمْدُ.
عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، قَالَ: نَزَلَ عِنْدَنَا سُفْيَانُ، وَقَدْ كُنَّا نَنَامُ أَكْثَرَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا نَزَلَ عِنْدَنَا، مَا كُنَّا نَنَامُ إِلاَّ أَقَلَّهُ، وَلَمَّا مَرِضَ بِالبَطَنِ، كُنْتُ أَخدِمُه، وَأَدَعُ الجَمَاعَةَ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: خِدمَةُ مُسْلِمٍ سَاعَةً، أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةِ الجَمَاعَةِ.
فَقُلْتُ: مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا؟
قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَامِرِ بنِ رَبِيْعَةَ، عَنْ أَبِيْهِ قَالَ:
لأَنْ أَخْدُمَ رَجُلاً مِنَ المُسْلِمِيْنَ عَلَى عِلَّةٍ يَوْماً وَاحِداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ صَلاَةِ الجَمَاعَةِ سِتِّيْنَ عَاماً، لَمْ يَفُتْنِي فِيْهَا التَّكْبِيْرَةُ الأُوْلَى.
قَالَ: فَضجَّ سُفْيَانُ لَمَّا طَالتْ عِلَّتُهُ، فَقَالَ: يَا مَوْتُ، يَا مَوْتُ.
ثُمَّ قَالَ: لاَ أَتَمَنَّاهُ، وَلاَ أَدْعُو بِهِ.
فَلَمَّا احْتُضِرَ، بَكَى وَجَزِعَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! مَا هَذَا البُكَاءُ؟
قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! لِشِدَّةِ مَا نَزَلَ بِي مِنَ المَوْتِ، المَوْتُ -وَاللهِ- شَدِيْدٌ.
فَمَسِسْتُهُ، فَإِذَا هُوَ يَقُوْلُ: رُوْحُ المُؤْمِنِيْنَ تَخْرُجُ رَشَحاً، فَأَنَا أَرْجُو.
ثُمَّ قَالَ: اللهُ أَرْحَمُ مِنَ الوَالِدَةِ الشَّفِيْقَةِ الرَّفِيْقَةِ، إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيْمٌ، وَكَيْفَ لِي أَنْ أُحِبَّ لِقَاءهُ، وَأَنَا أَكرَهُ المَوْتَ.
فَبَكَيتُ حَتَّى كِدْتُ أَنْ أَخْتَنِقَ، أُخْفِي بُكَائِي عَنْهُ، وَجَعَلَ يَقُوْلُ: أَوَّه ... ، أَوَّهُ مِنَ المَوْتِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: أَوَّه، وَلاَ يَئِنُّ إِلاَّ عِنْدَ ذَهَابِ عَقْلِهِ.
ثُمَّ قَالَ: مَرْحَباً بِرَسُوْلِ رَبِّي.
ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُسْكِتَ حَتَّى أَحْدَثَ، ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ قَضَى، ثُمَّ أَفَاقَ.
فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! اذْهبْ
(١) وهو صاحب " تهذيب الكمال "، شيخ المؤلف.