فَيَتَمَكَّنُ حِيْنَئِذٍ مِنْ فِعلِ مَا يُرِيْدُ، وَقَدْ رَصَدَنِي هَؤُلاَءِ مُنْذُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَمَا رَأَوْنِي آكُلُ شَيْئاً بَتَّةَ، وَهَذَا نِهَايَة صَبْرِي، فَخُذْ رطْلاً مِنَ الزَّبِيبِ وَرِطْلاً مِنَ اللَّوزِ، فَدُقَّهُمَا، وَاجعَلْهُمَا مِثْلَ الكُسبِ (١) ، وَابسُطْهُ كَالوَرَقَةِ، وَاجعَلْهَا بَيْنَ وَرَقَتَينِ كَدَفْتَرٍ، وَخُذِ الدَّفتَرَ فِي يَدِكَ مَكشُوَفاً مَطوِيّاً لِيَخفَى، وَأَحضِرْهُ لِي خُفْيَةً لآكُلَ مِنْهُ وَأَشرَبَ المَاءَ فِي المَضمَضَةِ، فَيَكفِينِي ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً أُخْرَى.
فكُنْت أَعمَلُ ذَلِكَ لَهُ طُولَ حَبْسِهِ.
قَالَ إِسْمَاعِيْلُ الخُطَبِيُّ فِي (تَارِيْخِهِ) :وَظَهَرَ رَجُلٌ يُعرَفُ بِالحَلاَّجِ، وَكَانَ فِي حَبسِ السُّلْطَانِ بِسعَايَةٍ وَقَعَتْ بِهِ فِي وِزَارَةِ عَلِيِّ بنِ عِيْسَى، وَذُكِرَ عَنْهُ ضُرُوبٌ مِنَ الزَّنْدَقَةِ، وَوَضَعَ الحِيَلَ عَلَى تَضلِيلِ النَّاسِ مِنْ جِهَاتٍ تُشبِهُ الشَّعوَذَةَ وَالسِّحرَ وَادِّعَاءَ النُّبُوَّةِ، فَكَشَفَهُ الوَزِيْرُ، وَأَنَهَى خَبَرَهُ إِلَى المُقْتَدِرِ، فَلَمْ يُقِرَّ بِمَا رُمِيَ بِهِ، وَعَاقَبَه، وَصَلَبَهُ حَيّاً أَيَّاماً، وَنُودِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ حُبِسَ سِنِيْنَ، يُنقَلُ مِنْ حَبسٍ إِلَى حَبسٍ، حَتَّى حُبِسَ بِأَخَرَةٍ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، فَاسْتَغوَى جَمَاعَةً مِنَ الغِلمَانِ، وَمَوَّهُ عَلَيْهِم، وَاسْتَمَالَهُم بِحِيْلَةٍ، حَتَّى صَارُوا يَحْمُونَه، وَيَدفَعُوْنَ عَنْهُ، ثُمَّ رَاسَلَ جَمَاعَةً مِنَ الكِبَارِ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَتَرَامَى بِهِ الأَمْرُ حَتَّى ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، فَسُعِيَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِه فَقُبِضَ عَلَيْهِم، وَوُجِدَ عِنْدَ بَعْضِهِم كُتُبٌ لَهُ تَدُلُّ عَلَى مَا قِيْلَ عَنْهُ، وَانتَشَرَ خَبَرُه، وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي قَتْلِهِ، فَسَلَّمَه الخَلِيْفَةُ إِلَى الوَزِيْرِ حَامِدٍ، وَأَمَرَ أَنْ يَكشِفَهُ بِحَضْرَةِ القُضَاةِ، وَيَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَجَرَتْ فِي ذَلِكَ خُطُوبٌ، ثُمَّ تَيَقَّنَ السُّلْطَانُ أَمرَه، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَإِحرَاقِهِ لِسَبْعٍ بَقِيْنَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ، سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلاَثِ مائَةٍ، فَضُرِبَ بِالسِّيَاطِ نَحْواً مِنْ أَلفٍ، وَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ، وَضُرِبَتْ
(١) الكسب: عصارة الدهن، فارسي معرب. أنظر " المعرب " للجواليقي: ص ٢٨٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute