نُزُوْلُ جِبْرِيْلَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ يَأْتِيْهِ، وَقُبُوْرِ الشُّهَدَاءِ؟
فَسَأَلَ يَحْيَى، فُكُلُّ أَحَدٍ دَلَّهُ عَلَيَّ، فَبَعَثَ إِلَيَّ، فَأَتَيْتُهُ، فَوَاعَدَنِي إِلَى عِشَاءِ الآخِرَةِ، فَإِذَا شُمُوْعٌ، فَلَمْ أَدَعْ مَشْهَداً وَلاَ مَوْضِعاً إِلاَّ أَرَيْتُهُمَا، فَجَعَلاَ يُصَلِّيَانِ وَيَجْتَهِدَانِ فِي الدُّعَاءِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، ثُمَّ أَمَرَ لِي بُكْرَةً بِعَشْرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ لِي الوَزِيْرُ: لاَ عَلَيْكَ أَنْ تَلقَانَا حَيْثُ كُنَّا.
قَالَ: فَاتَّسَعْنَا، وَزَوَّجْنَا بَعْضَ الوَلَدِ، ثُمَّ إِنَّ الدَّهْرَ أَعَضَّنَا، فَقَالَتْ لِي أُمُّ عَبْدِ اللهِ: مَا قُعُوْدُكَ؟
فَقَدِمْتُ العِرَاقَ، فَسَأَلْتُ عَنْ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ، فَقَالُوا: هُوَ بِالرَّقَّةِ.
فَمَضَيْتُ إِلَيْهَا، وَطَلَبْتُ الإِذْنَ عَلَى يَحْيَى، فَصَعُبَ، فَأَتَيْتُ أَبَا البَخْتَرِيِّ - وَهُوَ فِيَّ عَارِفٌ - فَقَالَ: أَخْطَأْتَ عَلَى نَفْسِكَ، وَسَأَذْكُرُكَ لَهُ.
وَقَلَّتْ نَفَقَتِي، وَتَحَرَّقَتْ ثِيَابِي، فَرَجَعْتُ مَرَّةً فِي سَفِيْنَةٍ، وَمَرَّةً أَمْشِي حَتَّى وَرَدْتُ السَّيْلَحِيْنَ (١) ، فَبَيْنَا أَنَا فِي سُوْقِهَا، إِذْ بِقَافِلَةٍ مِنْ بَغْدَادَ مِنْ أَهْلِ المَدِيْنَةِ، وَإِنَّ صَاحِبَهُم بَكَّاراً الزُّبَيْرِيَّ أَخْرَجَهُ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ لِيُوَلِّيَهُ قَضَاءَ المَدِيْنَةِ، وَهُوَ أَصْدَقُ النَّاسِ لِي.
فَقُلْتُ: أَدَعُهُ حَتَّى يَنْزِلَ وَيَسْتَقِرَّ.
ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَاسْتَخْبَرَنِي أَمْرِي، فَقَالَ: أَمَّا عَلِمْتَ أَنَّ أَبَا البَخْتَرِيِّ لاَ يُحِبُّ أَنْ يَذْكُرَكَ لأَحَدٍ.
قُلْتُ: أَصِيْرُ إِلَى المَدِيْنَةِ.
قَالَ: هَذَا رَأْيٌ خَطَأٌ، وَلَكِن صِرْ مَعِي، فَأَنَا الذَّاكِرُ لِيَحْيَى بنِ خَالِدٍ أَمْرَكَ.
قَالَ: فَصِرْتُ مَعَهُم إِلَى الرَّقَّةِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ، ذَهَبْتُ إِلَى بَابِ الوَزِيْرِ، فَإِذَا الزُّبَيْرِيُّ قَدْ خَرَجَ، فَقَالَ: أَبَا عَبْدِ اللهِ! أُنْسِيْتُ أَمْرَكَ، قِفْ حَتَّى أَدْخُلَ إِلَيْهِ.
فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ الحَاجِبُ، فَقَالَ لِي: ادْخُلْ.
فَدَخَلْتُ فِي حَالٍ خَسِيْسَةٍ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ ثَلاَثَةُ، أَوْ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، فَلَمَّا رَآنِي يَحْيَى فِي تِلْكَ الحَالِ، رَأَيْتُ الغَمَّ فِي وَجْهِهِ، فَقَرَّبَ مَجْلِسِي، وَعِنْدَهُ
(١) هي ناحية قريبة من بغداد تبعد عنها ثلاثة فراسخ، وقيل: إنها سميت كذلك، لأنه كانت بها مسالح لكسرى، وهم قوم بسلاح يرتبون في الثغور، واحدهم مسلحي.