للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجولة الثانية: قبسات ومواقف من طلب الإمام أحمد للعلم]

فنمضي مع الطالب المؤدب في جولة أخرى مع طلبه للعلم، لقد كان للإمام أحمد سمت فريد وصفة عجيبة في كمال التوقير لأهل العلم من مشايخه؛ ومن ذلك ما رواه عمرو الناقد قال: كنا عند وكيع وجاء الإمام أحمد بن حنبل، فجعل وكيع يصف من تواضعه ويثني عليه ويكرمه إكراماً عجيباً؛ لما له من منزلة ونجابة كان يعرفها الناس فيه وهو صغير، قال: فقلنا له: يا أبا عبد الله! إن الشيخ يكرمك فما لك لا تتكلم؟ فقال: وإن كان يكرمني فينبغي أن أجله.

أي: أن هذا الإكرام جعل عليه من الحياء ما ألجم لسانه، حتى يجل شيخه ولا يجاريه ويصبح مثله في المنزلة، وإن كان قد أفاض في مدحه وثنائه.

وقد قال قتيبة بن سعيد وهو من شيوخ الإمام أحمد، وإن كان قد روى عن الإمام أحمد، فـ ابن الجوزي رحمة الله عليه في كتابه (مناقب الإمام أحمد) عقد فصلاً لشيوخ الإمام أحمد الذين رووا عنه؛ لأنه قد بلغ منزلة عالية من العلم واحتاج الناس إلى علمه، فروى بعض شيوخه عنه، ومنهم: قتيبة بن سعيد وهو من شيوخ البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من أهل العلم.

يقول قتيبة: قدمت إلى بغداد وما كانت لي همة إلا أن أرى أحمد بن حنبل، فإذا هو قد جاءني مع يحيى بن معين فتذاكرنا، فقام أحمد بن حنبل وجلس بين يدي، فقلت: يا أبا عبد الله! اجلس مكانك، فقال: لا تشتغل بي إنما أريد أن آخذ العلم على وجهه.

انظروا كيف جلس بين يديه جلسة الطالب مع أستاذه، وبعضنا في هذه الأزمان التي قل فيها مراعاة الأدب إذا أثنى عليه أستاذه أو كذا فأعطاه كلمة رد عليه بكلمة، وإذا وضع يده على ظهره مكرماً أو مبجلاً ربما فعل مثل فعل شيخه أو أستاذه، وهذا مما يدل على أن قضية الأدب والتوقير ليست على الصورة المطلوبة، وهذه دروس نقتبسها من الإمام أحمد رحمة الله عليه.

وهذه قصة تجمع كثيراً من أهل العلم مع الإمام أحمد قال إسحاق الشهيدي: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند إلى منارة المسجد، فيقف بين يديه علي بن المديني إمام أهل الجرح والتعديل، والشاذكوني وعمرو بن علي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم يستمعون الحديث وهم قيام على أرجلهم حتى تحين صلاة المغرب لا يقول لأحد منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبةً له ولا يطلبون منه ذلك.

قد يقول القائل: في ذلك مبالغة! ولكن أقول: لا يجتمع أمثال هؤلاء على مثل هذه المبالغات تنطعاً أو تكلفاً؛ ولكنها سجية التوقير غرست في نفوسهم، والتعظيم للعلم ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: أحمد بن سعيد الرازي: ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل.

وتأمل هنا! قال: (ما رأيت أحفظ ولا أعلم بفقهه ومعانيه) أي أن العلم السلوكي والتربية الإيمانية قد اقتبسها الإمام أحمد مع الحفظ رحمة الله عليه.