بعد بيان الفضل للدعوة يأتي الحرص عليها، فالذي تكون المسألة بالنسبة له هواية عارضة، أو قضية ثانوية، أو عملاً يشغل به فضول أوقاته، ليس هو الذي نركز عليه في حديثنا، وليس هو الذي يعبر عنه قول الله سبحانه وتعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام:١٦٢ - ١٦٣].
وليس هو الذي مضى طول عمره وهو في هذا الشأن، وهذا الطريق، امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:٩٩].
فلابد أن نعرف -كما مر بنا في وصف الصياد- أننا قصدنا به الذي يعتبر الصيد مهمته وطلبته ومصدر رزقه، فكذلك نقصد هنا: المسلم الذي يرى الدعوة مهمته، ويرى الدعوة فريضته، ويرى الدعوة واجبه، كما جاء في نصوص كثيرة متضافرة ليس في الوقت مجال لذكرها.
وتأمل في سياق سريع ذلك الحرص الفريد العجيب الذي مثله لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما جعل مهمته وغايته في الحياة هي هداية الناس، ودعوتهم إلى طريق الله سبحانه وتعالى، حتى خاطبه القرآن في شدة حرصه، فقال الله جل وعلا:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف:١٠٣]، وقال الله سبحانه وتعالى:{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}[النحل:٣٧]، وقال سبحانه وتعالى:{وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}[النحل:١٢٧].
وذكر من حاله عليه الصلاة والسلام:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:٦]، أي: لعلك قاتل نفسك، ومتلف جسدك، ومضيع وقتك وأنت تتبع القوم، وتمضي في إثرهم، وهم يعرضون عنك، أنت تريد لهم الخير وهم يبتعدون عنك! ومع ذلك كان هذا الحرص من منطلق الفهم الصحيح لعظمة الرسالة، ولخيريتها، فالذي يعرف الخير ينبغي أن تكون نفسه -بتأثرها بذلك الخير- تحب الخير للآخرين، كما قال صلى الله عليه وسلم:(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، والنفس التي ترى النور تأسى وتحزن على الذين يعيشون في الظلام، يتخبطون فيه، وينزلقون مرة بعد مرة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:(إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الهوام والفراش يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار).
لابد لك أن تكون حريصاً غاية الحرص على هداية الخلق، وأن تعرف أن هذه المهمة واجبة، وأن هذه الرسالة عظيمة، وأنها ينبغي أن يستفرغ لها كل الوقت، ومعظم الجهد، وكل الفكر؛ حتى تؤتي ثمارها، كما كان على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.