[سمو الدعوة]
عظمة الإنجاز في حياة النبي عليه الصلاة والسلام أتناولها من وجهين: الوجه الأول: العظمة في سمو دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، منذ أن نزل قوله جل وعلا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:١] ثم تلا ذلك: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:١ - ٣] إلى قوله جل وعلا: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩] قام النبي عليه الصلاة والسلام فلم يجلس، وتحرك فلم يسكن، ونطق فلم يسكت، وجاهد فلم يداهن، كانت حياته من أولها إلى آخرها دعوة، وحمل أمانة الله، وبلغ رسالة الله، وأدى أداءً عظيماً هو أجلى ما يكون في صورة الآية القرآنية التي تأتي في الكلام على الرسل والأنبياء: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:٣٥].
ثم إذا رأينا سمو الدعوة في جانب آخر غير الجهد والجهاد والبذل والتضحية؛ فإن نوحاً عليه الصلاة والسلام ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً؛ لكن كل الابتلاء الذي مر بالرسل والأنبياء، وكل الجهد الذي بذله الرسل والأنبياء كله موجود في سيرة ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي سيرته ما هو جامع لكل ما تفرق من دعوة غيره من الأنبياء من إسرار وإعلان، ومن دعوة ملأ ودعوة خواص، ومن موافقين ومخالفين، ومن ابتلاء بالهجرة، أو ابتلاء بالقتال، أو ابتلاء بالكيد، أو ابتلاء بالاستهزاء، أو ابتلاء بالإغواء، أو ابتلاء بالإغراء، كل ما تفرق في سير الأنبياء جمع في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كما نعلم على ذلك القدر العظيم في دعوته عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك سموه في دعوته على حظوظ نفسه صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي سبى قلوب الناس وخطف أبصارهم وأمال نفوسهم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، والأحداث في سيرته كثيرة جداً أذكر منها على وجه السرعة: الرجل الذي جاء والنبي عليه الصلاة والسلام نائم تحت ظل شجرة وأخذ السيف وقال: (ما يمنعك مني يا محمد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الله، فارتعد الرجل واضطرب قلبه وسقط السيف من يده فأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ) فعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
واتفق عمير بن وهب رضي الله عنه قبل أن يسلم مع صفوان بعد بدر على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء يدعي أنه يطلب أسيراً له، وهو يريد أن يغتال النبي عليه الصلاة والسلام، فلما جاء قام عمر يستأذن ويقول: دعني أضرب عنقه، ثم أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء به فأسلم، وقال: (خذوا أخاكم فعلموه دينه).
وثمامة بن أثال أسر، وتمكن النبي صلى الله عليه وسلم منه، وهو سيد بني حنيفة، وربطه النبي صلى الله عليه وسلم في سارية في المسجد، ثم قال: (مالك يا ثمامة؟ فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تطلب الفداء يأتك المال، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام أطلقه، وجعل له كامل الحرية، وكانوا يكرمونه في أسره، فخرج فاغتسل ورجع وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم منع قريشاً أن تأتيهم حبة من الحنطة من بلاده حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وانظر إلى مسائل أخرى في سمو دعوة النبي عليه الصلاة والسلام في إيثاره للحق، وفي تأليفه للقلوب عليه الصلاة والسلام، والمواقف كثيرة يضيق المقام عن حصرها.
كذلك كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل؟! كيف كان رد أهل الطائف عليه عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم؟! لقد ردوا عليه بأقبح رد، وأغروا به سفهاءهم وغلمانهم يرمونه بالأحجار حتى دميت أقدامه الشريفة عليه الصلاة والسلام.
وانظروا كيف كان شأنه يوم أحد لما دمي وجهه الشريف، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه، وكسرت رباعيته عليه الصلاة والسلام، وهو يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
ويوم أن جاءه ملك الجبال وقال: (أطبق عليهم الأخشبين؟ قال: لا، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله).
كانت الدعوة كل شيء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كانت مع كل خفقة قلب ومع كل دفقة دم في عروقه، فدعوته ورسالته ودينه كان هو أوكد همه وأعظم شغله، لقد كان ذلك في كل حركة وسكنة، وفي كل لفظة وسكوت، كان كل همه كيف يغرس تلك الدعوة في القلوب! خذوا هذا الموقف الأخير: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على جار له يهودي، وابنه غلام في مرض الموت فقال له: قل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله حتى تنجو من النار، فنظر الغلام إلى أبيه فقال له أبوه: أطع أبا القاسم -حتى الذين لم يؤمنوا كانوا يرون عظمته صلى الله عليه وسلم- قال: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فتركه النبي عليه الصلاة والسلام وخرج ثم لم يلبث أن مات، فقال عليه الصلاة والسلام: الحمد الذي نجاه بي من النار) فرح عليه الصلاة والسلام، انظروا إلى فرحه يفرح بهداية الناس، نحن اليوم إذا رأينا مخطئاً دعونا عليه بالويل والثبور والعظائم، واكفهرت وجوهنا في وجهه، وأصبحنا عوناً للشيطان عليه، أما النبي عليه الصلاة والسلام فكان يفتح صدره وقلبه للناس.
في مسند الإمام أحمد لما جاء ذلك الشاب يقول: (يا رسول الله! ائذن لي في الزنا)، أسلم ولكنه كان يمارس هذه الشهوة، وتعرفون قوتها وتمكنها من النفس، ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اغرب عن وجهي، لو جاءنا أحد اليوم وقال هذا الكلام لأحدنا لقال له على أقل تقدير: ألا تستحي؟! كيف تقول لي مثل هذا الكلام؟! لكنه عليه الصلاة والسلام قال: (أترضاه لأمك؟! أترضاه لأختك؟! والناس كذلك لا يرضونه، ثم وضع يده الشريفة على صدره ودعا له، قال الشاب: فما كان شيء أبغض إلي من الزنا).
انظر إلى هذا السمو العظيم في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم!