[المدرسة العقلية حقيقتها والآثار المترتبة عليها]
المدرسة الثالثة -وهي التي يطول الحديث فيها- المدرسة العقلانية التي بالغت في حد العقل ومكانته حتى بلغت به أن يكون في منزلة الإله، أو بلغت به أن يكون هو الذي يحكم كل شيء ويوجه كل شيء، حتى جعلت العقل حاكماً على الشرع، وهذا من أعظم الفساد وأكثر المزالق التي ضلت فيها فرق كثيرة، والتي حينما ابتليت بها الأمة وقع فيها من الخلل ومن الزيع -بل ومن الكفر والخروج من الملة- ما هو مشهود له في وقائع كثيرة.
وهذا الأمر يحتاج إلى بعض التفصيل؛ لأن الأمرين السابقين أحسب أن صورتهما واضحة سواء من الإباحية أو من المادية التي ذكرناهما، ذلك كله ظاهر، لكن مسألة العقلانية تطوف بالعقول أكثر، والتلبيس فيها أكثر.
فإذاً هذه الصورة هي المهمة نقف عندها ونسرد أولاً أقوالاً تبين لنا ما قال هؤلاء العقلانيون إن صح التعبير نسبة إلى العقل الذي بالغوا في تقديره، وإن كانوا في حقيقة الأمر خالفوا مقتضى تفكير العقل؛ لأن العقل من حسن تفكيره وتدبيره أن يعرف حدوده، وأن يعرف مدخله ومخرجه، فالإنسان إذا كان له تخصص معين ثم يدخل في كل تخصص ويريد أن يبدع في كل تخصص فإنه يخلط، أو يأتي بحق وصواب، أو يوفق إلى بعض الصواب ويخطئ في كثير، فلا يقال عن مثل هذا: إنه مصيب.
بل يقال: إنه أخطأ؛ لأنه تجاوز الحد.
فهؤلاء عقلانيون باعتبار أنهم تكلموا في مسألة العقل، لا باعتبار أن عقولهم هي الراجحة أو الكبيرة، وإن كانت كذلك في ذات الأمر، لكنها في آخر الأمر انقلبت على ذاتها.
فنذكر أقوالاً تبين صورة موجزة لهذا الأمر، فمن هذا قول الزمخشري صاحب الكشاف في مسألة العقل، يقول: امش في دينك تحت راية السلطان -ويقصد به سلطان العقل- ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان، فما الأسد المحتجب في عرينه أعز من الرجل المحتج على قرينه.
هذا القول يعني: سر في دينك تحت سلطان العقل، واترك الرواية عن فلان وفلان، لا تقنع بها بل حاكمها إلى العقل، فإن اقتنع بها عقلك وإلا فالتمس لها مخرجاً أو تأويلاً.
والغزالي القديم أيضاً يقول في تعليق على قول الله سبحانه وتعالى في خطابه للسماوات والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:١١] يقول الغزالي: فالبليد في فهمه هو الذي يقدر لهما حياة -يعني: للسماوات والأرض- يخلقها الله للسماء والأرض، وعقلاً وفهماً للخطاب، وخطاباً هو صوت وحرف تسمعه السماء والأرض فتجيبان بحرف وصوت وتقولان: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:١١]، هذا البليد والبصير يعلم أن ذلك لسان الحال، وأنه أنبأه عن كونهما مسخرتين بالضرورة.
أقول: هذا الفهم الذي هو ظاهر النص والقرآن وجاء باللغة العربية، كما قال تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:٢٨] {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:١] {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:٤٤].
كل هذه الدلالات تدل على أن ظاهر لفظ القرآن يحمل على الحقيقة، إلا أن توجد القرينة القوية المستدل بها من النصوص الأخرى على أن المعنى مفسر بقول آخر.
فهو يقول: البليد الذي يظن أن هذا المعنى الظاهر هو المراد، والبصير هو الذي يفهم أن هذا أمر معنوي وليس حسياً.
وسنبين الخلاصة بعد سرد بعض هذه الأقوال أيضاً، وستجد -أيضاً- من المتأخرين من يرى مثل هذا.
فـ محمد عبده يقول: الأصل الأول للإسلام النظر العقلي لتحصيل العلم، فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي وغيره يأتي بعده.
ويقول: تقرر بين المسلمين كافة -إلا من لا ثقة بعقله ودينه- أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل، كالعلم بوجود الله سبحانه وتعالى.
وهذا طبعاً خلاف الصحيح.
ثم أقوال أخرى دخلوا فيها مدخلاً صحيحاً وخرجوا مخرجاً خاطئاً، دخلوا من مدخل تكريم الإسلام للعقل، ودعوة للتأمل في القرآن والتدبر والتفكر وإعمال العقل، دخلوا من هذا المدخل، ثم خرجوا منه إلى أن العقل هو الحاكم، ولذلك أولوا كثيراً من النصوص، مثل إمداد الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين بالملائكة، وهو ثابت بنص القرآن، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:٩]، فيقول الواحد منهم في تفسير له: إن هذا الإمداد أمر روحاني يؤثر في القلوب، وليس هناك ملائكة نزلت ولا غير ذلك.
انظر إلى النظرية العقلية المادية البحتة! ثم يقول: المسلمون في بدر كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، والكافرون كانوا قريباً من ألف، فلو نزلت الملائكة وكان كما ورد في الروايات أن أحدهم يقول: إني كنت أرفع سيفي فإذا بالكافر أو المشرك يقطع رأسه ويموت قبل ذلك، فإذا كانت الملائكة نزلت بكثرة فمعنى هذا الكلام أن الانتصار أصبح فيه نوع من التكافؤ، وهذا لا يكون، بل الانتصار كان بقوة الروح.
ومن هذا التوهم يأتي مثل هذا الكلام، وعلى هذا فقس.
كذلك حينما يأتي قول الله سبحانه وتعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:١٣]، يقولون: هذا للتسخير ونحو ذلك.
إذاً فما ورد من تسبيح الطعام بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، وما ثبت أيضاً في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة وخرج مرة فما مر بشجر ولا حجر إلا وهو يسلم عليه إذا قلنا بهذا القول فإن معظم ما ورد سيكون غير واضح الدلالة، أو دلالته غير مرادة.
وهذا لا شك أنه إخراج للنصوص عن مرادها الظاهر والواضح.
هذه المدرسة مشكلتها أنها وصلت إلى حد خطير، وهو رد النصوص، فتجد من هؤلاء من ينكر كل نص وإن ثبت إذا كان يرى أنه مخالف لمقتضى العقل.
أقول: أولاً: أي عقل هذا الذي نريد أن نجعله حكماً؟! فعقلي غير عقلك وعقل الثاني غير عقل الثالث.
ثانياً: هذا الدين جاء لكل الناس، للعامي البسيط، وللعجوز الشمطاء التي لا تعرف ولا تبصر ولا تدرك من الأمور كثيراً، وللطفل الصغير، فلو قلنا: إن هذه المكانة للعقل بهذا التدبر والتفكر وهذا الإمرار للنصوص على العقل يحكم فيها فإننا سنجد أن هذا لا يتحقق إلا في فئة من الناس لا يتجاوزون نسبة ضئيلة، والآخرون كيف سيكون حالهم؟! هل سيكونون كلهم من البلداء؟! وهل سيكون مثل هذا الوصف يلحق بمن كانوا من أهل الإيمان من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والتابعين، وهم من سيأتي ذكر كثير من قولهم في الشق الثاني من الموضوع؟!
الجواب
ينبغي أن يكون هناك تدبر وتأمل، ومن هنا اقتضى هذا الإسراف في هذا الجانب.
وعلماء أهل السنة ردوا على هذه القضية في ردود كثيرة، كان أوسعها وأعظمها وأدقها كلام الإمام ابن تيمية في (درء تعارض العقل والنقل) هذا كتاب كامل في هذه المسائل، ربما نوجز بعض ما أشار إليه، ونذكر بعض القضايا اليسيرة قبل أن نذكر كلام شيخ الإسلام رحمة الله عليه.
إن الناس يسلمون بمحدودية الحواس الأخرى، ومن هذا المدخل تكون إحدى الحجج على العقلانية، فمثلاً: كل الناس مسلمون بأن البصر والنظر محدود، ونحن الآن في هذا الهواء والفراغ هناك كائنات وهناك ميكروبات وهناك فيروسات لا نراها، فهل عدم رؤيتنا لها يجيز لنا أن ننكر وجودها وأن نرفض وجودها؟! وهل عدم العلم هو إثبات للعدم؟! هل أنت إذا لم تعلم أن هناك -مثلاً- إنساناً خارج الغرفة التي أنت فيها هل ذلك دليل على عدم الوجود؟
الجواب
لا.
فالآن أنت ببصرك هل ترى كل شيء؟ الجواب: لا.
حتى السمع معروف أن له ذبذبات معينة من كذا إلى كذا يسمعها الإنسان، إذا زادت عن هذا الحد لا يسمعها، وإذا نقصت عن هذا الحد لا يسمعها، ومن ذلك الحديث الذي في عذاب القبر أن المعذب يصرخ صرخة يسمعها كل من في الأرض إلا الثقلان الإنس والجان، ثم كذلك هناك أشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية، وهذه المسميات أيضاً لا يراها الناس، هل أنكروا وجودها أم قالوا: نعم هي موجودة عرفناها يقيناً من جهة أخرى، وما لم نعرفه أيضاً نسلم بأن هناك ما هو أدق وما لم يزل بعد حتى بالأجهزة والإلكترونيات والمجاهر ما وصلنا إليه؟ إذاً أنتم جعلتم للبصر حداً محدوداً وللسمع حداً محدوداً، وقلتم: نوقن بهذه الحواس وبقوتها، لكننا نعلم أن لها حداً لا تستطيع أن نتجاوزه إلا بمساعدة، وهذه المساعدة هي مما يسر الله سبحانه وتعالى كالمكبرات وغير ذلك من الأمور، إذاً لماذا لم نقل ذلك في موضوع العقل، وأن له حداً إذا زاد عنه لا يستطيع أن يصل إلى هذا الحد إلا بمساعدة، وهذه المساعدة هي الوحي المبلغ للناس من الله سبحانه وتعالى؟! فكل ما هو في إطار الغيب خارج عن حدود العقل لا يمكن للعقل أن يدركه إلا بمساعد، وهو الوحي الذي يبين له إجمالاً وتفصيلاً ما ورد عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم به، وإلا فإنه يكون أيضاً منافقاً، كيف سلمت بحد الحواس كالبصر والسمع وتركت الأخرى، ولو قلنا: العقل يدرك كل شيء فكيف سنفهم كثيراً من الأمور؟ حتى الأشياء الممارسة في الحياة اليومية كثير منها نجد أن الناس يسلمون بها من غير تحكيم للعقل، فكيف يكون هذا فيما وراء ذلك من الأمور الشرعية؟! إنك تتصور بعض الأمور الغيبية، مثل عذاب القبر، أو نعيم القبر كما ورد في الأحاديث الصحيحة: (فيفسح له في قبره حتى يكون مد بصره) إن أخذتها بالعقل فإذاً كيف سيصنع هذا القبر بجيرانه؟! وكذلك كما في الحديث أنه يجد من ريحها ونعيمها، وفي الحديث أنه يجد من حرها وعذابها، فلو تجاورا هل ينتقل نعيم هذا أو برد هذا إلى حر هذا؟ بالعقل ستتعب في هذا التفكير، كذلك لو فكرت بالعقل في كثير من القضايا الغيبية لا يمكن أن تصل فيها إلى جزم، وإلغاؤها نوع من تكذيب الشرع، أو نوع من الطعن في تبليغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نوع من خفاء الوحي وخفاء الدين على كثير من الناس، والأصل أنه جاء تبياناً لكل شيء، وأنه واضح لكل إنسان، وأنه جاء للعالم والعامي وغيرهما، وهذ