وأيضاً كان عليه الصلاة والسلام يرسم لنا صورة البذل في أمر النفس والروح في الجهاد في سبيل الله، فكم من غزوة خرج فيها وكان قائد المسلمين ومقدمهم! وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أشجع الشجعان وفارس الفرسان يقول:(كنا إذا حمي الوطيس، واحمرت الحدق، نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقد كان صلى الله عليه وسلم يكون في المقدمة عند مواجهة الأعداء، ولم يكن عليه الصلاة والسلام من الجبناء، وفي يوم حنين ارتبكت جيوش المسلمين، وجاء أولها على آخرها، ومقدمها على مؤخرها، واضطربت الصفوف، ورجع أهل الفتح من المسلمة الذين لم يثبت إيمانهم بعد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم على بغلة بيضاء له يقال لها: دلدل.
والبغلة ليست من الدواب التي تسرع حتى تكون دابة هروب وفرار، بل هي دابة استقرار وقرار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يثبت في مكانه ويقول:(أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب).
ثم يدعو العباس لينادي أهل الهجرة وأهل بدر، حتى تجمع الناس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى عظيم حديثه عليه الصلاة والسلام الذي أخبر فيه عن بذل النفس والروح في سبيل الله، وأنه لا يتمنى إلا أن يقتل في سبيل الله، ثم تعاد إليه روحه، فيقتل في سبيل الله ثانية، ثم تعاد إليه روحه، فيقتل في سبيل الله ثالثة، وذلك لما يرى المجاهد من ثواب الله سبحانه وتعالى، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ}[التوبة:١١١].
وانظر إلى هذه الصفقة العظيمة (إن الله اشترى) فالمشتري هو الله سبحانه وتعالى، وقد اشترى الأنفس قبل الأموال، فالسلعة هي الروح التي بين جنبيك، هي خفقان قلبك، هي حياتك في هذه الدنيا الدنيئة، ثم الثواب والأجر والقيمة المعطاة:(جنة عرضها السموات والأرض).
لما سمع الصحب الكرام ذلك الوعد العظيم من الله سبحانه وتعالى قالوا: لا نقيل ولا نستقيل، هذه بيعة نثبت عليها، هذه صفقة نصر عليها، هذا عهد نمضي عليه حتى آخر لحظة من لحظات الحياة.