للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[يقظة الضمير واستشعار المراقبة]

إن الأمن الذي يفرض بقوة العساكر، أو دقة المراقبة، أو دوام المتابعة؛ أمن هش ضعيف مهما بلغت أسبابه؛ لأنه لا يمكن أن يراقب كل أحد، ولا أن يتابع كل شخص، ولا أن يعرف ما في خفايا القلوب وطوايا النفوس، لكن الأمن الحقيقي هو الذي ينبع من داخل النفس، ويردع صاحبه عن المحرمات والمنكرات، والعدوان على الحرمات، ويدفعه إلى القيام بالواجبات وأداء المهمات، والمسارعة إلى الخيرات.

هذا الإيمان هو مملكة الضمير الحية التي عندما غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في أمته وأصحابه لم يكن في ذلك المجتمع من المفاسد والمنكرات والجرائم إلا ما يعد على أصابع اليد أو اليدين؛ دون أن يكون في زمانه عليه الصلاة والسلام بطاقات ممغنطة، أو كاميرات تصوير، أو شرطة تجوب الشوارع والطرقات، ولا شيء من ذلك، ومع ذلك ما هي الجرائم التي وقعت؟ وما هي الاعتداءات التي تحققت؟ كيف اكتشف؟ عندما وقعت بعض هذه المحرمات والفواحش هل اكتشفتها المتابعات الأمنية، أو توصلت إليها الأدلة الجنائية، أم أن الذي أخرجها إلى حيز الوجود الحس الإيماني، واليقظة الشعورية، والمراقبة لله عز وجل، والخوف منه سبحانه وتعالى؟ إذا أحيينا الإيمان في القلوب فقد نشرنا الأمان في المجتمعات، فهذا ماعز الأسلمي جاءت قصته في الصحيح: في لحظة غفلة الهوى واستزلال الشيطان، وضعف النفس، وإغراء الشهوة، وقع في جريمة الزنا، ولم يره أحد، ولم تنظره عين، ولم تضبطه شرطة، فأي شيء وقع؟ تحرك الإيمان في قلبه ندم يعتصر نفسه أسى، ويقطع قلبه ألماً، يندفع إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام مقراً معترفاً: (يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، فيعرض عنه الرسول عليه الصلاة والسلام، لعله أن ينصرف؛ فيأتيه قبل وجهه ويكرر، فينصرف عنه النبي ثانية وثالثة ورابعة وهو يعيد اعترافه، فيقول عليه الصلاة والسلام: لعل به شيئاً، أي: لعله شارب للخمر ولا يدرك ما يقول، فاستنكهوه، قالوا: يا رسول الله! ما به من بأس، قال: لعلك قبلت، لعلك فاخذت، حتى أقر، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام برجمه فرجم)، هل يسجل التاريخ مثل هذا في غير وجود الإيمان؟ وهل يمكن أن يظهر مثل هذا في غير بيئة الإيمان؟ وأبلغ من هذا وأظهر: قصة المرأة الغامدية: جاءت إلى النبي عليه الصلاة السلام تقر بما أقر به ماعز -وحديثها في الصحيح كذلك- فأعرض عنها رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالت: (يا رسول الله! لعلك تعرض عني كما أعرضت عن ماعز؛ فإني حبلى من الزنا، فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبي حتى تضعي حملك)، وذهبت دون كفالة حضورية، أو بصمات وصور، أو متابعة، ورجعت بعد تسعة أشهر كاملة.

ما الذي أعادها وقد كان بإمكانها أن تهرب؟ {فرجعت ومعها غلامها رضيع، فقال لها عليه الصلاة والسلام: اذهبي حتى ترضعيه فتفطميه.

فذهبت به حولين كاملين، ثم رجعت وهي مصرة ومعها غلامها في يده كسرة خبز دليل على فطمه، فأمر بها النبي عليه الصلاة والسلام فرجمت، فوقع بعض دمها على بعض الصحابة فلعنها، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تلعنها، فإنها تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم).

هذا هو الإيمان، نحن نقول: عمقوا الإيمان في النفوس حتى يشيع الأمن في المجتمع، وتشيع الرحمة، وينتشر الخير، ويعم السلام الحقيقي، لا السلام المفروض بقوة الأسلحة وبكثرة الشرط.