[صورة عملية تطبيقية لمنطلقات الإصلاح في القرآن والسنة]
ننتقل إلى مثل قرآني لعله يجمع صورة عملية لهذه المنطلقات وتطبيقاتها في شأن الإصلاح، في قصة نبي من أنبياء الله عز وجل، وهو شعيب عليه السلام في خطابه لقومه:{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود:٨٨] هذه صورة متكاملة ومنهج واضح وتطبيق عملي في خطاب يعلن المبادئ ويبين المسالك، ويظهر الاعتماد والقاعدة التي يكون منها الانطلاق (إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي).
فلا انطلاق قبل وضوح الرؤية، وقبل بيان الحكم، وقبل معرفة الحق من الباطل، وقبل إزالة الالتباس والاشتباه، كما بين هنا (إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا).
ثم التزام الإصلاح قبل الدعوة إليه من أعظم أسباب نجاحه، ومن أعظم الأسباب الدالة على صدق الداعي إليه (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) أي: كيف أزعم الإصلاح وحقيقة القول الذي أقوله يترتب عليها الفساد، وحقيقة الفعل الذي أفعله يقع منه ما يعارض هذا الإصلاح؟! فإن مثل ذلك لا شك أنه ينقض هذه الدعوى ويبطلها ويعريها عن حقيقتها، وإن كان لصاحبها نية فعلم نيته عند ربه.
ثم نلحظ كذلك قوله:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}[هود:٨٨]، وهنا أمر مهم ومقصد عظيم، وهو الإخلاص في الإصلاح، إنه إصلاح لا يريد تحصيل مصالح شخصية، إنه إصلاح لا ينطلق من نوازع نفسية، ولا من صراع شخصي، ولا من أهواء في نفوس من يزعمون ذلك الإصلاح، ولا يكون ردود أفعال عاطفية ولا حماسة طائشة، إن معاشر المسلمين لا ينطلقون إلى أمر ولا يتقدمون إلى فعل إلا وقد تحروا أمرين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً: الأمر الأول: البينة الواضحة في الحكم الشرعي بأدلته من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: الاجتهاد الخالص المخلص فيما يظن أنه يترتب على الفعل من المصالح والمفاسد والموازنة بينهما، فما رجح من المصالح على المفاسد كان الأولى فعله، وما رجحت مفاسده على مصالحه فالأولى تركه وإن كان مباحاً أو جائزاً، بل ربما يكون مندوباً أو في بعض الأحوال واجباً، لكنه في حال يترتب عليه مفاسد كبرى قد يكون فعله مع تصور ذلك محرماً، مع كونه في الأصل واجباً.
وهذا فقه بثه العلماء وساقه قبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ترك أموراً لئلا تترتب عليها مفاسد، كما روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال:(لولا أن قومك حديثو عهد بإسلام لنقضت الكعبة وأعدت بناءها وجعلت لها بابين) وبين البخاري ذلك في ترجمته، وبينه ابن حجر في شرحه، وبين أن من الفوائد أنه يمكن أن تترك المصلحة إذا خشي أن تكون هناك مفسدة أعظم، وذلك مبثوث في كثير من المواقف التي كانت في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولعل من أجلاها وأظهرها أنه عليه الصلاة والسلام اعتمر وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة في عمرته الشهيرة بعمرة القضاء في العام السابع من الهجرة والكعبة حولها الأصنام، وعلى الصفا والمروة إساف ونائلة، فهو عليه الصلاة والسلام لم يهدم من تلك الأصنام صنماً، ولم يبصق عليها ولم يسفّهّا، لكننا نوقن جميعاً أنه كان يبغضها، وكان يتمنى لو أزالها، لكنه كان عليه الصلاة والسلام يعلم أن لكل حادث وقته، ولكل عمل ما ينبغي أن يتدرج فيه وأن تتوافر أسبابه، وقد كان صلى الله عليه وسلم في عهد وصلح مع كفار قريش، فالتزم عهده وأوفى بذمته، ومن بعد عام تيسرت الأمور وجرت الأقدار، فجاء فاتحاً يطعن هذه الأصنام وتتهاوى وتتكسر، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول:({وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:٨١]).