[كيفية بداية نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم]
ولنأخذ في ذلك القدوة المثلى رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولنأخذ بعض البدايات لنرى أن البدايات طبيعتها الشدة والصعوبة والقوة، وأن الأمر إذا أردت أن يكون جيداً وأن يكون السير فيه حثيثاً فلابد أن تكون بدايته وانطلاقته قوية؛ لأن كل أمر يبدأ بكسل وفتور، أو يبدأ بتقصير وتفريط؛ فإن مآله إلى انقطاع.
وكثيراً ما نرى -كما يقولون- الكتاب من عنوانه، والأمور من بداياتها، فلو جئنا في أول العام وأول يوم في الدراسة لوجدنا أن نصف الطلاب غائبين، فمعنى ذلك: أن هؤلاء الطلاب وهذه الدراسة سيكون أمرها -كما يقال- في خبر كان، لكننا لن نجد ذلك غالباً، بل نجد أن الطلاب منتظمون كلهم أو معظمهم في أول يوم، ثم يحصل بعد ذلك التفريط والتقصير.
ولذلك البداية لابد أن تكون جادة، ولابد أن تكون قوية، ومن قدر الله عز وجل أنه جعل البدايات تكتنفها الصعوبات حتى تتهيأ لها النفوس.
وأنقل هنا مثالاً جديراً بالتأمل والتدبر والاعتبار من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم: وذلك في أول مرة نزل فيها الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يظن البعض أو يتصور أن المرة الأولى لابد أن تكون هينة خفيفة، ثم تتدرج بعد ذلك في قوتها وثقلها وصعوبتها، ولكننا نجد الأمر على غير ذلك؛ لأن البدايات الضعيفة لا تؤهل إلى مسيرة قوية.
فكيف نزل الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما عند البخاري وغيره أنها قالت: (كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء؛ فكان يتحنث الليالي ذوات العدد في غار حراء حتى نزل عليه جبريل وهو في غار حراء، قال عليه الصلاة والسلام: فأخذني فغطني - أي: ضمني ضماً شديداً- حتى بلغ مني الجهد -أي: المعاناة والمشقة والصعوبة- قال: ثم أرسلني فقال: اقرأ.
قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ.
قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:١ - ٥]) فالرسول عليه الصلاة والسلام كان وحده في الغار، وبمجرد قدوم كائن أو إنسان غريب في تلك الخلوة كان كافياً أن يكون مخيفاً، ثم إذا به يخاطبه، ثم إذا به يضمه ويشتد عليه، وليس مرة واحدة ولا اثنتين بل ثلاث مرات؛ لماذا؟ لأن الذي سيأتي ثقيل؛ ولأن الذي سيتلى عظيم؛ ولأن الرسالة جسيمة والأمانة ضخمة والمسئولية هائلة.
ولذلك كان لابد أن تكون البداية قوية وفيها شدة؛ لتكون متناسبة مع طبيعة البدء وقوة الانطلاق واستشعار عظمة المسئولية والأمانة؛ لأن الله جل وعلا قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:٥]، فلا يمكن للقول الثقيل أن يأخذه الضعيف، ولا يمكن للمهمة العظيمة أن يحملها الرجل الضئيل، ولا يمكن للغايات السامية أن يسير فيها الكسالى واللاهون والعابثون.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم هو الذي اصطفاه الله جل وعلا وهيأه لهذه المهمة وصنعه على عينه، ثم جاءت البداية بهذه القوة والشدة.