ومرة أخرى نبدأ ذلك بالتسلسل الفعلي الواقعي: يصوم فيترك الطعام والشراب، وهو الحلال الزلال؛ لأن الله أمر بتركه وحرمه في أثناء النهار، فيقول: فما بالي لا أترك الحرام الدائم على مدى الأيام والأعوام؟ أليس هذا نظراً عقلياً حصيفاً، ومنطقاً واضحاً جلياً؟ ويقول: ما بالي إذاً لا أنتبه إلى الخطورة التي أقارف فيها ما حرم الله وأنا أترك ما أباحه من طعام وشراب امتثالاً للنهي هنا، وتخلياً عنه هناك؟ قال صلى الله عليه وسلم:(رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب).
ويفكر العقل فيقول: لمَ أجعل هذه الفريضة عناءً ونصباً وتعباً وأخرج منها بغير غنيمة ولا مكسب؟ إن العاقل لا يرضى لنفسه ذاك.
ثم يتذكر مرة أخرى، وهو يستمع ويسمع كثيراً من النصوص التي يكثر ذكرها في رمضان، كحديث النبي صلى الله عليه وسلم:(وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، وإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم)، فيمسك لسانه ليتم صومه.
وإذا به يقول: ما لي لا أمتنع عن الغيبة؟ ولمَ لا أترك النميمة؟ ولماذا لا أقطع السب والشتم؟ ولماذا أذكر فاحش القول؟ يتذكر هدي وشمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ثم انظروا أيضاً مرة أخرى وهو يستمع إلى حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:(من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، فيقول: كيف أصوم وأكذب؟! وكيف أصوم وأغش في بيعي وشرائي؟! وكيف أصوم وسهام عيني تخترق المحرمات؟! وكيف أصوم وأذني وعاء لكل النفايات من الأقوال الباطلة، والأغاني الماجنة؟! إنها سلسلة تتوالى عند المسلم إذا كان يقظ العقل حي القلب، وتلك الآيات تأتيه مرة أخرى، والأحاديث تتلى عليه مرة وأخرى، ثم إذا به يتأمل بعد ذلك كله وقد بدأ يترك تلك المحرمات، ويلتفت حينئذ إلى عاداته المذمومة التي بدأ يتركها.
فالدخان الذي يواظب عليه، واللعب واللهو الذي يجعل له في كل يوم نصيباً، يقول: لمَ وقد تركت ذلك لا أترك هذا؟ وكذلك من علامة ترك المعصية: كره المعصية بعدها، ومن اجتناب المحرمات: نفرة القلب من المعاصي والسيئات.