للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[انتهاز الداعية للفرص والمواقف]

وكان النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً ينتهز الفرص، فذات مرة مر عليه الصلاة والسلام بجدي أسك ميت، أي: جدي ميت مقطوع الأذن فقال: (من يشتري هذا بدرهمين؟ فسكت القوم، فقال: من يشتري هذا بدرهم؟ فقالوا لما قال ذلك: والله يا رسول الله! لو كان حياً لما كان لأحدنا فيه حاجة! فقال: لهوان الدنيا على الله أهون من هذا عليكم) فالنبي صلى الله عليه وسلم انتهز هذه الفرصة وهذه المناسبة فرمى رميته؛ لأنه ليس في كل مرة تتاح الفرص، فلا ينبغي أن يكون الصيد في موضع مناسب وفي ظرف مهيأ وأنت تغفل عنه، فإذا هرب الصيد احتجت إلى أن تلاحقه، وأن تنصب له الشراك، فما دام قد تهيأ بين يديك، وجاء في الظروف المناسبة، فدونك فارم سهمك حتى تصيب.

وكذلك لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام المرأة وهي تبحث عن ابنها، فلما رأته ضمته إلى صدرها وألقمته ثديها قال: (أترون هذه ملقية بولدها في النار؟ قالوا: هي أرحم به من ذلك، فقال: والله إن الله لأرحم بكم من هذه بولدها).

ونبه النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى طبيعة القوم الذين سيأتيهم عندما أرسله إلى اليمن، فقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب) فهم ليسوا مثل غيرهم من أهل الشرك (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم استجابوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات، ثم أعلمهم إن استجابوا لذلك أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم).

ثم حذره بعد ذلك من الأساليب التي تنفر الصيد، فقال: (وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).

إذاً: أعطاه كل العدة التي يحتاجها باعتبار اختلاف الحال، ثم أعطاه التدرج الذي يحتاج إليه، ثم حذره من الأمور التي ينفر بها صيده، وتتعطل بها مهمته.

وقلنا من بعد ذلك إنه ينبغي على الصياد أن يتفقد عدته ويجهزها، كذلك الداعية إذا أراد أن يذهب لدرس أو لعظة أو لقوم في مجلسهم لابد أن يتهيأ له بمراجعة معلوماته، ويتهيأ بما يحتاج إليه المقام، وقلنا إنه كلما زادت عدته وذخيرته كلما كان صيده أكثر كما أشرنا، وقلنا لابد أن يفحص المنطقة ويحدد الموقع، وهذا المقصود به أن يعرف أحوال الناس: هل هم قوم قد غلب عليهم الانحراف في الاعتقاد، أو قوم غلب عليهم انحراف في سلوك، أو قوم غلبت عليهم الغفلة، فلا يمكن أن تأتي إلى قوم وإلى مجتمع وأنت لا تعرف طبيعة الإعلام الذي يوجههم، ولا طبيعة العلم الذي يدرسونه، ولا طبيعة الأعراف الاجتماعية المتحكمة فيهم، فالمجتمع القبلي غير المجتمع الحضري.

فلابد أن تدرس ذلك كله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرس هذا الأمر، ويعرف التفاوت بين الناس، والاختلاف في شأن القبائل وفي شأن أعيان الناس، وفي شأن العادات التي كانت مترسخة فيهم، ولذلك حتى سياسة التدرج في التشريع كانت موافقة لذلك؛ فقد قالت عائشة: لم يكن أول ما نزل (لا تشربوا الخمر)، وإنما نزل أول الأمر آيات الإيمان والاعتقاد، فلما تاب الناس وفاء الناس إلى الإسلام نزل (لا تشربوا الخمر) وحرم الله سبحانه وتعالى بعد ذلك الخمر.