والثالث ما نذكره في كثرة الطاعات: الإنفاق في مصارف المسلمين ونصرتهم.
ولئن كان هذا الإنفاق سبباً من أسباب المادة فإنه قبل ذلك سبب من الأسباب المعنوية الإيمانية التي يُمحص بها الإيمان، والتي تبتلى بها النفوس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة:(شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجتمع في قلب عبد: الإيمان والشح.
وقال الله جل وعلا:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:٩].
إنها النفوس المرتبطة بالأموال، المتعلقة بالملذات، كيف نستطيع تهذيبها؟ كيف نستطيع أن نجعل فيها تعظيم أمر الله، ونصرة دين الله، وإعانة عباد الله قبل أن تكون مسخرة لشهوات البطون والفروج والملذات والترف والنعيم؟ ما بالنا ننفق أموالنا في شهواتنا، ولا يكاد أحدنا تجود نفسه إلا بأقل القليل على مضض وتردد إذا دعي للإنفاق في سبيل الله، ويقول: أريد الجهاد في سبيل الله، ولا يجاهد بماله ليكون ضرباً من ضروب الجهاد كما روى أبو داود والنسائي في سننهما من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:(جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)؟ ونعلم كثيراً من الآيات التي تقدم الأموال على الأنفس، فهل جاهدنا بأموالنا؟ وهل جعلنا ما هو فرض علينا أولاً، وما هو زائد على الفرض لننصر ديننا، ونعلي راية ديننا، أم أننا ما زلنا نبخل بذلك؟ {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[محمد:٣٨].
ليس أحد بأعز على الله عز وجل من أن يمضي فيه أمره، وأن تجري عليه سنته:{هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[محمد:٣٨]، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}[التوبة:١١١]، والرسول عليه الصلاة والسلام أخبرنا -كما في الصحيح- بأنه:(من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا) ألست تكفل يتيماً قد مات والده مجاهداً مستشهداً في سبيل الله؟ ألست تعين حينئذ على مواجهة أعداء الله؟ ما بالنا ننفق أموالنا لنقوي أعداء الله، ولنجعل الأموال في أيديهم ليستعينوا بها على حرب الإسلام وأهله؟ نداء نقوله بالعقل والقلب، وقبل ذلك بالدين والشرع: المدخنون كم ينفقون من الأموال؟ هذا ينفق قليلاً وهذا ينفق قليلاً، وإذا بنا نقول وتقول الأرقام: إن عشرات البلايين من الريالات تنفق في بلدنا هذا على هذا الدخان! أفهذا عقل عند من يرون أنهم مستهدفون من أعدائهم؟! أفهذا تصرف حكيم عند من يقولون: إنهم يريدون أن يطوروا أحوالهم وينصروا أمتهم؟! وانظر إلى ما وراء ذلك من السرف والترف في الزواج وفي غيره! وانظر إلى الإنفاق في البذخ وفي غير هذه الأبواب المعروفة التي يشعر المرء كأن شيئاً منها لم يتغير، وكأن ما جرى وما قد يجري لا يخصنا، ولا يغير من واقعنا شيئاً.
هل غيرنا بعض ما نصرفه على كماليات لا فائدة منها ولا حاجة إليها، فضلاً عن محرمات ومكروهات وموبقات نصرف فيها الأموال، لندفعها إلى أيدي الأعداء، ولنشتري منهم، ولنأخذ منهم هذه المهلكات والمدمرات؟ ثم نقول بعد ذلك: إننا أمة مستهدفة، ونريد أن نواجه أو نقاوم! ذلك أمر عجيب! بخل في الطاعات، وسرف في المحرمات، ولسنا نريد أن نقول: كونوا كما كان أسلافنا، لسنا نريد أن نذكر بـ عثمان يوم جهز جيش العسرة، وسخر كل ما بيده في خدمة دينه، ونصرة أمته، وإعلاء إسلامه، ومواجهة أعدائه:{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}[الحديد:١٠]، مجرد التقدم في هذا الباب يجعل هناك فرقاً في المراتب، واختلافاً في الدرجات، وينبغي لنا أن ندرك هذا وأن نعرفه.
ولعلي هنا أختم بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو يجمل لنا هذه الجوانب التي ذكرتها؛ قال عليه الصلاة والسلام:(ثلاث أحلف عليهن: لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كما لا سهم له، وإن أسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة) هذه الأسهم أين حظنا منها؟ وأين نصيبنا؟ أول هذه الخطوات العملية: كثرة الطاعات؛ فإنها بداية التصحيح.