الوجه الثاني: العظمة في سمو التربية، انظروا إلى الرجال الذين أخرجهم محمد صلى الله عليه وسلم، هذا عمر رضي الله عنه ماذا كان يعبد؟! قال:(كنا نعبد أصناماً أحياناً من تمر، يقول: فإذا جعنا أكلناها) ماذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته يعبدون؟! من هو أبو بكر؟! من هو عمر؟! من هؤلاء الناس؟ عرب لا يعرف الناس عنهم ذكراً، عندهم من الخصال الذميمة، وعندهم من الأحوال البغيضة، وعندهم من الجاهلية المستحكمة ما هو عظيم جداً لا يكاد يتصور من بشاعته.
يقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه وقد ولي أمر مكة:(كنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم والله ما لنا طعام إلا ورق الشجر في أيام الحصار، يقول: وما منا اليوم إلا وهو أمير على مصر من الأمصار) خرجوا قادة عظاماً، خرج الحزم في قيادة أبي بكر، وخرجت عدالة عمر، وخرج حياء عثمان، وخرجت شجاعة علي، ومن أعظم وجوه عظمته صلى الله عليه وسلم أنه كان يعرف الرجال؛ فلذلك قال لـ عمر:(لو سلك عمر فجاً لسلك الشيطان فجاً غير فج عمر) وفي ذكر صفات الصحابة عند الترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: (أشدهم حياءً عثمان، وأصدقهم لهجةً عمر، وأشجعهم علي، وأقرؤهم أبي، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) كان يعرف خصائص كل رجل من أصحابه، كان يعرف كيف يدخل إلى القلوب، وكيف يغير العوائد، حتى أخرج لنا هذه الكوكبة العظيمة، التي لن يكون لها مثيل في جملتها في وقت واحد وزمن واحد أبداً في التاريخ، قد يكون آحاد من الناس له مراتب أو ربما مناقب أو ربما عبادات أو إيمانيات أو أعمال صالحة تقرب من بعض الصحابة، لكن لن يكون هناك جيل تجتمع فيه من الخصائص والصفات والخير والعمل مثل ما كان عليه الصحابة رضوان عليهم، نحن اليوم لو جاء أب وربى أبناءه وكانوا علماء وكانوا صالحين وكانوا ذوي أخلاق حسنة، ماذا يقول الناس عنهم؟ يقولون: فلان يكفيه هذا الابن من أبنائه، خلفه وجعله في هذا الوضع وهذا الحال، فكيف بهذا النبي صلى الله عليه وسلم كما قال شوقي: يكفيه شعب من الأموات أحياه أي عظمة أفضل من عظمة تخريج الرجال وصناعة الرجال؟! وليس هناك أحد صنع مثل ما صنع رسول الله عليه الصلاة والسلام في مثل هذا.
فمن أعظم وجوه العظمة: هو ما أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه البشرية من أعيان أصحابه رضوان الله عليهم، وما كانوا عليه من إيمان وتقىً وهدى وصلاح، وما كانوا عليه من قوة وحسن عمل حتى شرقوا في الأرض وغربوا، وفتحوا القلوب والبلاد وأصلحوا العباد، وكان خيرهم رضوان الله عليهم أساساً مازلنا إلى يومنا هذا نتفيأ ظلاله، وننتفع بما صنعوه خدمة لدينهم وتبليغاً لدعوتهم واتباعاً لرسولهم صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك استمساكاً بكتاب ربهم سبحانه وتعالى، وهذا باب واسع، وهو حري وجدير أن يكون لافتاً للنظر، بل إن بعضاً من غير المسلمين، وخاصة من المعاصرين المستشرقين أكثر ما يذكرونه في وجوه عظمته صلى الله عليه وسلم أنه استطاع أن يحول أمة عابثة لاهية قصارى ما عندها حروب فيما بينها، وليس عندها طموحات ولا آمال؛ إلى أمة ملكت ثلثي المعمورة التي كانت معروفة في ذلك الوقت، في زمن وجيز من عمر الزمان، حتى قام عقبة بن نافع يخاطب البحر ويقول: لو أني أعلم أن وراءك أرضاً وقوماً لخضتك في سبيل الله عز وجل.
وحتى بر الأمير المسلم قتيبة بن مسلم بقسمه وجاءوا له بتراب من الصين ليطأ عليه بقدمه إبراراً لقسمه.
وحتى وقفت جيوش المسلمين على أبواب النمسا في القرون القريبة الماضية، ودخلوا في عهد عبد الرحمن الغافقي التابعي إلى جنوب فرنسا.
إن هؤلاء الرجال العظام الذين خرجتهم مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم وأنجبهم الصحابة رضوان الله عليهم هم أعظم ثروة وأعظم دليل على عظمة رسول الله عليه الصلاة والسلام.