للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عمل المعلمين]

سؤال ثانٍ: ما هو عملكم؟ وهذا أيضاً أشير فيه أشارات سريعة: أولاً: المعرفة والتعليم؛ لأن هذا هو الأمر الأول المتبادر إلى الذهن، وأن المعلم يعلم الطلاب، أي: يعطيهم معلومات يعرفونها ويحفظونها، ثم يسألون عنها فيكتبونها، وهذا في حد ذاته جزء أساسي لاشك في أهميته، لكنه ليس وحده كما سيأتي، فقضية التعليم عندما تُفهم بهذا المعنى تكون حشواً للمعلومات في الرءوس، وتكون في الوقت نفسه عملية مملة يرى الطالب أنها أثقل عليه من الجبال العظيمة الشاهقة؛ لأنه تُسرد له المعلومات سرداً، ويُحشى بها عقله حشواً، كما كان أحد الأساتذة الذين درست عندهم في مرحلة جامعية عليا يقول: كان المدرسون يجهلونكم ستة عشر عاماً حتى جئتم إليّ تتعلمون.

ثم قال: المطلوب من كثير من الطلاب -أي: في أسلوب التعليم- أن يحفظوا أوراقاً معينة، ثم يأتي يوم الإختبار فيتقيئونها على الورق، ثم ينتهي الأمر إلى هنا.

إذاً هذه المهمة ينبغي أن تعرف بقدرها، وأن تعرف بأساليبها وطرائقها، كما سأشير إلى بعض ذلك لاحقاً.

فأول عمل هو التعليم، والتعليم هو كما أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم) فالتعليم له طرائق، وله وسائل، وله أساليب محببة إلى النفوس، ومقربة إلى الأفهام والعقول، وهذه كلها ينبغي أن لا تخفى على المدرس.

ثانياً: مع المعرفة والتعليم لابد من صياغة التفكير، وهذه مهمة عظيمة، وهذا عمل خطير جداً؛ لأن المعلومات وحدها ما تنشئ شيئاً، ولا تقوم معوجاً، ولا تحرك ساكناً، ولا تدفع إلى فضيلة، ولا توجه إلى مهمات الأمور ومعاليها، لكن من أهم الأشياء صياغة التفكير، فالمعلم ينبغي أن يضع الأسس الصحيحة للتفكير السليم، وللمبادئ التي ينبغي أن تكون مسلمات، وللأخلاقيات التي ينبغي أن تكون أموراً متعارفاً عليها مقراً بها لا خلاف في أهميتها وفضيلتها، بمعنى أن المعلم يحتاج من خلال التعليم ومن خلال العملية التعليمية كلها أن يصيغ الفكر الصحيح، فمثلاً: هناك هزيمة نفسية عند كثير من أبناء المسلمين، ويرون -أو يرى بعضهم- أن المسلمين متخلفون، وأن غير المسلمين متقدمون، وقد يرى بعضهم في أفكارهم تشويشاً حول هذا المعنى بأن أولئك تقدموا لأنهم -مثلاً- تخلوا عن دينهم، كما كان يقال في أوائل هذا العصر، وقد انتهت هذه المقولة إلى حد كبير.

أيضاً: هناك تفكيرات أخرى أن قضايا العلم مرتبطة بالأجناس، فتجد عند بعض الطلاب هذا المعنى، فأحدهم يقول لك: يا أخي! الغربيون الأمريكيون عقولهم كبيرة، وهم الذين يمكن أن يخترعوا، ولا يتصور أن يكون في بني الإسلام أو في بني العروبة من عنده عقل مبدع أو منتج أو مفكر.

وهناك أيضاً أمور وأسس ثابتة في أمور الدين وأمور العقائد لابد أن يتصورها الطالب، وأن يحسن التفكير في أن هذه لا مساس بها، ولا مفاوضة عليها، ولا مجاملة فيها، ولا مداهنة فيها، إلى غير ذلك.

هناك أيضاً قضايا متعلقة بتاريخ الأمة وبمقوماتها الأخلاقية والفكرية ينبغي أن تكون أيضاً من مهمة المدرس، وهذه لها أثرها العظيم والكبير.

ثالثاً: التربية السلوكية مع الصياغة الفكرية، فأحياناً عند بعض الناس نظرات فكرية ممتازة، فأحدهم يقول: ينبغي أن يكون كذا، والحقيقة أن الأصل هو كذا.

وهكذا هذه الأمور في قضية المعلمين بأنهم كذا وكذا وكذا، فهذه نظرية وقضية فكرية، لكن ما هو التطبيق الواقعي؟ إن من الطلاب -خاصة في سنوات تعليمهم الأولى وفي سنوات الشباب- من عندهم صور الخلل السلوكي والانحراف العملي التطبيقي، ومن مهمة المدرس الأولى ومن أعظم وظائفه العملية أن يقوَّم هذه السلوكيات، وأن يعوَّد الكاذبين على الصدق، وأن يمنع المنحرفين عن الانحراف، إلى غير ذلك مما هو معلوم في كثير من الصفات التي قد توجد في بعض الطلاب والشباب في مراحل سني حياتهم الأولى، وفي فترات المراهقة ومقتبل الشباب، والمرحلة التي يمر بها الطلاب في أثناء دراستهم التعليمية، فلا شك أن هذه البصمات التأثيرية السلوكية أهم بكثير جداً من الناحية المعرفية التي ذكرتها أولاً، ولذلك ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وهذا الحديث رواه الإمام مالك بلاغاً، وقال ابن عبد البر: روي من وجوه موصولة أخرى صحيحة، وأخرجه غيره.

وهذا المعنى هو الشق الآخر لمهمة النبي عليه الصلاة والسلام، فقد بعث معلماً وبعث مربياً، فالتعليم من غير التربية لا يؤتي ثمرته، بل يكون على العكس من ذلك، والأحاديث والمعاني الإسلامية في هذا كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.

رابعاً: العمل والبناء، فمن مهمة المدرس عندما يعطي المعرفة ويصوغ التفكير، ويوجِد التربية والسلوك، أن يوجه هؤلاء الطلاب إلى أن يشقوا الطريق العملي في الحياة والبناء، وأن يكونوا مبدعين في تخصصاتهم، وأن يكونوا عاملين لمصلحة أمتهم، وأن لا يكون هذا كله مرتبطاً بنفسية ليست مندفعة للعمل، بنفسية ترى واقع الأمة فتستسلم له بدلاً من أن تغالبه وتكافحه، فهذه الروح الحركية القوية هي من أعظم المؤثرات التي يُحتاج إليها والتي هي من مهمات المدرس والمعلم في طبيعة عمله.