للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرجوع إلى المنبع الصافي في العلم]

من المهم في بداية هذا الحديث أن نبدأ بذكر مضمون هذا الموضوع؛ لأنه ربما لا يستشف من عنوانه المضمون الواضح الذي يرتسم في ذهن السامع أو في ذهن القارئ ابتداءً، وأحب أن أضرب لذلك مثلاً يجعله إن شاء الله مدخلاً إلى الحديث عن مضمون هذا الموضوع.

لو تصورنا إنساناً بلغ به العطش غايته، وليس له من شراب ولا غيره أمداً طويلاً، فلنتصور حالته إذا أقبل على واحة أو على نبع من الماء، لا شك أنه يندفع اندفاعاً قوياً ويعب من الماء عباً، وهو يقصد في ذلك خير نفسه وصلاحها، ولكنه ربما لا يلتفت حينئذ إلى ما على هذا الماء، وما جاء إليه، وما اختلط به من بعض الأكدار التي جاءت من خارجه، وربما أيضاً أسرف في شربه بما قد يضره مع أن قصده المنفعة.

ولو أنه تروى قليلاً، فأزاح ما قد يكون من الماء من الشوائب أو الأخلاط، أو عمد إلى منبع الماء الصافي، فأخذ قدر حاجته شيئاً فشيئاً لكان ذلك أصح له وأنفع له بإذن الله سبحانه وتعالى ولا شك.

في الفترة الماضية من الزمان هاجت رياح التغريب، وجنح كثير من الناس في مزالق الشيطان، وأهواء النفوس، وضلالات العقل، وكثر البعد عن دين الله سبحانه وتعالى، ثم يسر الله سبحانه وتعالى هذه الصحوة المباركة التي نشاهد فيها الإقبال العظيم على الخير، والرغبة الجامحة في الاستزداة والاستفادة، والحمية والغيرة القوية على هذا الدين، وهذه كلها مقاصد حسنة، لكن كما أقبل العطشان، ربما لم يلحظ شيئاً من الأكدار، وربما أخذ بمقدار أكثر من الحاجة، وربما يقع له في مثل هذه الحال ما يقع لذلك الرجل.

هذا هو مدخل موضوعنا، أن نحاول أن نرجع إلى النبع الصافي، وأن نحاول أن نستوضح من كلام الأئمة والعلماء ما يبين بعض مواطن الخلل التي قد نقع فيها، وبعض مواطن الزلل التي قد تزل الأقدام فيها، وهذا يتعلق بالذات بالأكثر وروداً، والأكثر تداولاً، وهو ما يتعلق بالتقويم والنصح والإرشاد، أو بالدفاع عن الدين والذب عن حياض الإسلام، فإنه ربما كان في مثل هذا الأمر ما يقع فيه الخلل، حتى قد يسرف الناقد فيأتي بما لا ينبغي، وبما لا يجدي، وقد يسرف أيضاً المتغاضي فيتهاون فيما لا ينبغي وفيما لا يجدي.

وبالجملة: فإن مسألة التقويم ومسألة النقد والتصويب والتخطئة لا شك أنها من أدق المسالك ومن أصعبها، ومن أكثر المسالك التي قد يرد الخطأ فيها، ومن هنا فإنا أحببنا أن نبين بإذن الله سبحانه وتعالى ما ينبغي في مثل هذا الأمر من القواعد والضوابط، ومن الاسترشاد بالآيات والأحاديث، ومن ضرب الأمثلة من واقع تطبيقات الأئمة الموثوقين والمتبوعين والمرضيين من سلف هذه الأمة رضوان الله عليهم أجمعين، فإن الخير له نور، وإن للطاعة حلاوة، ونجد لصاحب تصويباً وتوفيقاً من الله سبحانه وتعالى يوقعه على الصواب، ويجنبه الخطأ والزلل في غالب الأمر، كما أن للمعصية ظلمة وسواداً في القلب، وربما تورث فساداً في الرأي، وخطأً في العمل؛ لأن لذلك آثار، ولذلك آثار وبهذا قضت سنة الله سبحانه وتعالى، ولكن الخير إذا كثر وكثرت أنواره فإن قليل الظلام من العثرات يعفى، بل قد يعم النور فلا يظهر لتلك العثرات أثر إلا لمن نقر وبحث في هذه العثرات، ومن هنا فإن حديثنا وموضوعنا هو فيما يتعلق بهذا الجانب المهم والخطير، الذي ربما يكثر مساحة الاختلاف والتنابز، أو التنافر، فعلينا أن نسعى جاهدين إلى قصد الحق، ورؤية ميزان العدل في مثل هذا الأمر، فنسأل الله جل وعلا الإعانة والتوفيق، وهو سبحانه وتعالى ولي هذه الأمور، وما يكون للإنسان فيها إن شاء الله من توفيق فمن الله، وما يكون من خطأ فمن الشيطان أو من نفس الإنسان، ومن إحسان ظن الناس به أن يلتمسوا له عذراً.