[تجنب التأثير السلبي للمجتمع المنحرف]
نبدأ أولاً بما كان من حياته عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه، وهذه هي الصفحة الأولى: روى ابن إسحاق في (السيرة) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان -أي: في سن الصبا- وكلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته، يعني: أنهم عند نقل الحجارة رفعوا الأزر على العواتق؛ ليحملوا عليها الحجارة، فكان يبدو منهم جزء من العورة.
قال: فإني لأُقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم -وفي بعض الروايات: ما أراها شديدة، أي: اللكمة، وفي بعضها: إذ لكمني لكمة شديدة ثم قال: شد عليك إزارك، فشددته عليّ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي).
وروى البخاري من حديث جابر في المغازي والسير مثل هذه الرواية، إلا أن هذه الرواية التي عند البخاري تذكر أن ذلك في سن شباب النبي صلى الله عليه وسلم أثناء نقل الحجارة للمشاركة في بناء الكعبة، وأنه كان قد شد عليه إزاره فرآه عمه العباس فقال: ارفع إزارك -يعني: حتى تقوى على حمل الأحجار- قال: فلما فعلت ذلك غشي علي، فلم أعد إلى ذلك أبداً، أو كما جاء في الرواية.
وروى الحاكم عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، وما هممت بسوء حتى أكرمني الله عز وجل برسالته، فإني قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعالي مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت أريد ذلك، حتى إذا جئت أول دور من دور مكة سمعت عزفاً بالدفوف والمزامير فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان بن فلان تزوج فلانة بنت فلان، فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس، فجئت إلى صاحبي فقال: ما خبرك؟ فقصصت عليه الخبر، قال: ثم كان ذلك ثانية، فلما جلست لأستمع ضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس، قال: فلم يقع منه عليه الصلاة والسلام إلا مثل هذا) قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وضعف بعضهم هذا الحديث بعلل معتبرة عند بعض أهل العلم، فقال ابن كثير رحمة الله عليه في تاريخه: هذا غريب جداً.
ولكن هذه الروايات تتقوى بمجموعها خصوصاً مع وجود رواية صحيحة في البخاري، وهي التي نريد أن نقف فيها الوقفة الأولى؛ إذ إن هذه الصفحة من سيرته عليه الصلاة والسلام تبين لنا معلماً مهماً من معالم الدعوة، وهو تجنب التأثير السلبي للمجتمع المنحرف، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام عاش في هذه الجاهلية التي كانت منحرفة في أفكارها وعقائدها، وكانت منحرفة في سلوكها وأخلاقياتها، وكانت منحرفة في قوانينها وعاداتها، إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يشرك أولئك القوم في شيء من هذا، ولم يخالطهم فيه، ولم يقبل منهم ذلك، بل كان -بما وفقه الله عز وجل إليه، وما عصمه به- مجتنباً هذه الصور الانحرافية كلها.
وهذا أمر مهم في شأن الدعوة، وهو سياج الوقاية والحماية، ولا بد لنا أن ندرك أن الوقاية أهم وأولى في التقديم من العلاج، خصوصاً في مجال الدعوة، سيما في الأعصر التي تختلط فيها المفاهيم الإسلامية، ولا تتمثل معالم المجتمع الإسلامي تمثلاً كاملاً، وإذا بمبادئ ومذاهب فكرية تخالف دين الله عز وجل، وإذا بشرائع وأحكام وقوانين لا تتفق مع شريعة الله سبحانه وتعالى، وإذا بأوضاع وعادات وتقاليد لا تتطابق مع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا بالمسلم في وسط هذه البيئة إن خالطها، أو أخذ شيئاً منها، أو قبلها، أو فتن بها، أو اعتقدها، أو دعا إليها، فلا شك أنه سيكون متأثراً غاية التأثر، وسيضع هذا الاشتراك بصماته على فكره، وعلى قلبه، وعلى سلوكه وتصوراته.
ولذلك لا بد أن نؤكد على هذا المعنى، وهو أن يعتزل المسلم كل انحراف في الجاهلية التي يعيش فيها، وألا يكون موافقاً لها من ناحية المبدأ، وألا يكون مائلاً لها من ناحية الشعور، وألا يكون متطابقاً معها من ناحية السلوك، وألا يكون مساعداً لها من ناحية الغض عنها، أو عدم السعي لإنكارها وتضييق سبل ترويجها وقوتها وانتشارها؛ ولذلك ذم النبي صلى الله عليه وسلم بني إسرائيل، وتلا عليه الصلاة والسلام قول الله جل وعلا: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:٧٩] ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض).
فهذا معلم مهم ينبغي أن يرسِّخه أهل الدعوة وأهل العلم والإيمان في قلوب المسلمين، وأن ينشئوا في قلوب المؤمنين تلك العزلة الشعورية، والمفاصلة القلبية، والمفارقة من حيث الاعتقاد والمبدأ لكل صورة انحرافية يعيشها المسلم في وسط أي مجتمع من المجتمعات؛ وذلك حتى يبرأ من الآثار؛ لأن السمع والبصر جهازا استقبال، فإذا سمع المرء الخنى، وإذا رأى الفحش والفجور، وإذا سمع مقالات الباطل، فإنه يوشك أن ينطبع بعضها في قلبه، وأن يغير في فكره، وأن يؤثر في سلوكه، وهذا معلم مهم يعد أول الخطوات، ألا وهو الوقاية استعداداً لما بعدها.