[أهمية الجدية والهمة لطالب العلم]
النقطة السابعة: الجدية والهمة، لابد أن يكون عند طالب العلم جدية وهمة عالية، وهناك كثير من النماذج والتراجم، منها: ما نقل أن ابن حجر رحمة الله عليه قرأ صحيح البخاري في عشرة مجالس، كل مجلس عشر ساعات، وصحيح مسلم في أربعة مجالس في نحو يومين ومن اليوم الثالث إلى الظهر، وانتهى من ذلك في يوم عرفة في يوم الجمعة عام (٨١٣هـ).
والفيروزآبادي قرأ في دمشق صحيح مسلم على شيخه قراءة ضبط في ثلاثة أيام.
وللخطيب البغدادي والمؤتمن الساجي وابن الأبار وغيرهم في ذلك عجائب وغرائب يطول ذكرها، والإمام النووي يذكر عن نفسه أنه كان له في اليوم الواحد اثنا عشر درساً في اثني عشر علماً، ليس هذا ميسوراً لكل أحد، فالأصل ألا تختلط في العلوم، والأولى أن تأخذ علماً واحداً أولاً فإذا مكنته أخذت في الذي بعده، لكن هناك من عنده همة تبلغ به ذلك، وكما يقال: العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه، فكيف إذا أعطيته بعضك؟! وانظر إلى الهمة عند كثير من طلبة العلم اليوم، إذا كان الدرس بعد الفجر قال: هذا درس صعب ولا يمكن المواظبة عليه، ولماذا لا ننقله إلى وقت آخر؟! وإذا كان الدرس يمتد إلى أكثر من ساعة، قال: لابد أن نأخذ الحكمة والسنة في عدم إملال الناس وكذا وكذا، وإذا كان الدرس في كتاب فيه بعض الدقة والصعوبة، قال: لماذا لا نأخذ كتاباً أيسر منه؟! وهكذا.
هذا كله دليل على ضعف الهمة، أما قوة الهمة فينبغي أن تكون على ما كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم ورحمة الله عليهم، حتى قال بعضهم عندما كان يأخذ علم القراءات: كان الناس يسبقونني إلى شيخ القراءات في دمشق، فعزمت على أن أكون سابقاً، فاستيقظت قبل الفجر الأول ومضيت إلى المسجد؛ ليكون أول الناس، قال: فجئت وإذا أنا الثلاثون، قبله تسعة وعشرون قد بكروا لذلك، وكان من دأب علماء الأمة وطلبة العلم من قبل أن تبدأ دروسهم قبل الفجر، ثم بعد ذلك يصلون ما تيسر أو يوترون ويصلون الفجر وتبدأ دروس أُخر.
وهذا الإمام الشوكاني، فقد ذكر أنه كان يدرس في كل يوم ثلاثة عشر درساً في أنواع مختلفة من العلوم.
إذاً: لابد أن نعرف أن الهمة في طلب العلم مطلوبة؛ لأن طلب العلم بلا همة لا يمكن أن يكون، والأمثلة في ذلك كثيرة.
وهناك أمثلة معاصرة على علو الهمة حتى لا يقال: إن هناك ظروفاً كانت تناسب وتلائم أولئك، لكن من كان طالباً للمعالي فإنه لابد أن يصل إليها أو إلى بعض منها، ومن هذه الأمثلة: أعرف أحد الإخوة الذين يسر الله لهم الهداية عندما انقدح في قلبه حب طلب العلم وكان بصيراً وجاداً، تفرغ لحفظ كتاب الله عز وجل فأتمه في أقل من عام، ثم مضت به همته أعلى من ذلك فجوده وأخذ الإجازة فيه، ثم واصل أكثر من ذلك فإذا به يقرأ بالقراءات العشر ويحفظ المتون اللازمة لها، ثم مضى إلى أكثر من ذلك فانتسب إلى كلية من كليات الشريعة، ومضى إلى أكثر من ذلك وهو في دراسة غير الدراسة الشرعية فتخرج، ثم مضى إلى الدراسات العليا وانتهى من مرحلتها الأولى، وهو في آخر المراحل الدراسية ولا يزال مرتبطاً بعلمه الأول وعمله السابق، ولكن جمع بين جنبيه همة عالية صارمة.
قال كثير من السابقين مستشهدين لهذا بقوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:١٢]: أي: بهمة عالية، أما بترخص وضعف فلا يكون ذلك، ولذلك قيل: يحتاج في العلم والتفقه إلى جد ثلاثة: المتعلم والأستاذ والأب إن كان حياً حتى يحرض ابنه على ذلك.
يقول الشاعر: تمنيت أن تمسي فقيهاً مناظراً بغير عناء فالجنون فنون وليس اكتساب المال دون مشقة تحملها فالعلم كيف يكون إذا كان طلب المال وطلب الدنيا يحتاج إلى جهد فكيف بطلب العلم؟! ويقول الشاعر: بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلى سهر الليالي تروم العز ثم تنام ليلاً يغوص البحر من طلب اللآلي علو القدر بالهمم العوالي وعز المرء في سهر الليالي تركت النوم رب في الليالي لأجل رضاك يا مولى الموالي ومن رام العلى من غير كد أضاع العمر في طلب المحال فوفقني إلى تحصيل علم وبلغني إلى أقصى المعالي