للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأمل في رحمة الله عند الضيق والشدائد]

وأمر ثالث أيضاً يدخل به اليأس والقنوط على نفوس بعض الناس: عندما تضيق بهم الأحوال، وتقل في أيديهم الأموال، وتنسد طرق الرزق أمامهم وأمام سعيهم، فإذا بالرضا عن قضاء الله لا يلج إلى قلب أولئك، فتجدهم متكدرين معترضين ساخطين، غير متأملين في نعم الله عليهم، وغير متفائلين في الأمل الذي يمكن أن يفتحه الله عز وجل في مستقبل الأيام.

وما ينبغي أن يكون هذا حال المؤمن، فإن نعمة واحدة من نعم الله عز وجل عليك لا يكفيك عملك كله شكراً لها، فإذا وجدت شيئاً من الضيق في باب من الأبواب، فانظر إلى الصحة التي آتاك الله إياها، وانظر إلى السلامة والأمن الذي هيأه الله لك، وانظر إلى الأولاد الذين رزقهم الله إياك، وانظر إلى ما سلف من الرزق الذي أجراه الله عز وجل بين يديك، وانظر إلى القليل الذي آتاك الله عز وجل كيف بارك لك فيه، وانظر إلى غيرك ممن هو أدنى منك في أبواب الرزق؛ لتذكر نعمة الله عليك، ولتشكر الله سبحانه وتعالى، وتذكر قوله جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:٢٨] قد أجدبت الأرض، وأقفرت من الماء حتى لم يعد هناك أمل، فإذا الله عز وجل ينزل رحمته.

وهكذا هذا الأمر يحتاج أيضاً إلى عمل، يحتاج إلى التضرع والدعاء، يحتاج إلى الصلاة والاستسقاء، يحتاج إلى أن تتعرف على الله في الشدة والرخاء، ينبغي ألا تكون حالك كحال أهل الكفر أو أهل الغفلة والطغيان، الذين لا يلتفتون إلى رحمة الله سبحانه وتعالى، والذين يطغون بالنعم إذا جاءتهم، ويكفرون بالله عز وجل إذا سلبهم بعض النعم.

أما المؤمن فإن أمره كما أخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: كله له خير؛ فإن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، فهو في كل حال من الأحوال على خير.

واعلم أن كل بلاء يحل بك أو ضيق يواجهك في حياتك إنما هو تكفير للسيئات ورفع للدرجات، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (حتى الشوكة يشاكها العبد المؤمن يكفر الله عز وجل بها من خطاياه)، فاحمد الله عبد الله، ولا تيأس من نعمة الله ولا من رزق الله، ألم تر فقراء من الله عليهم فجأة بسعة الرزق من إرث أو من عمل لم يكونوا يحتسبونه؟ والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:٤]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٢ - ٣] لم نضيق بما قدر الله عز وجل علينا ثم نتنكب الطريق ونريد توسعة الرزق من خلال الحرام، فنقبل الرشاوي، ونغش، وندلس، فإذا قيل: لم تفعل هذا؟ قال: لأن أبواب الرزق ضاقت ولم يكن هناك من طريق إلا هذا! فسبحان الله كيف نريد عطاء الله بمعصية الله! وكيف نريد أن يفرج الله عنا ونحن نضيق على أنفسنا ونسد الطريق بيننا وبينه سبحانه وتعالى بمثل هذه المعاصي! وهنا مثل جاء في كتاب الله عز وجل لنأخذ منه الدرس والعبرة من غير ما تطويل كما في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام، لما جاءته ملائكة الله، يقول الله جل وعلا: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:٥٢ - ٥٥].

فهذه صورة أخرى: بعض الناس يحرم الولد ويبحث هنا وهنا ثم ينقطع الأمل، والله سبحانه وتعالى قد قص علينا في قصة إبراهيم أنه كان قد بلغ من الكبر عتياً، فجاءته البشارة فلم يصدقها لأول وهلة؛ لأنه لا يعرف هؤلاء المبلغين لهذه البشارة، فلما قالوا: {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الحجر:٥٥] أي: من عند الله عز وجل، لم يكن عنده أدنى شك في وعد الله عز وجل، وفي البشارة التي بلغها إياه ملائكة الله سبحانه وتعالى.

وكم ممن حرموا من الذرية عاشوا سنوات طوالاً ثم رزقهم الله عز وجل! فلا يمكن للمؤمن أن ييأس من أي أمر في هذه الحياة ما دام موصولاً بالله سبحانه وتعالى، وأكثر ما يقع اليأس عندما تحل المحن ويكثر البلاء، ويشتد كيد الأعداء، وتحيط بالمسلم أو بالمسلمين النكبات من كل مكان، هنا يقع في بعض القلوب وهن، ويسري إلى بعض النفوس يأس وقنوط، وينبغي ألا يكون ذلك ممن قلبه معمور بالإيمان، وإن الله سبحانه وتعالى قد قص علينا من قصص الأنبياء والمرسلين ما هو درس وعظة وعبرة في هذا الشأن: فهذا موسى عليه السلام يخرج ومعه بنو إسرائيل من مصر، ويتبعه فرعون وجنوده، ثم يعترضه البحر أمامه، وفرعون بجيوشه وسيوفه وحرابه من ورائه، فإذا ببعض بني إسرائيل ممن لم يعمر الإيمان قلبه ولم تعظم ثقتهم بالله عز وجل: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١] لا أمل لنا في النجاة مطلقاً، وجاء رد موسى عليه السلام بقدر ما كان على عظيم الأمل وكماله: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢] لا يمكن أن تكون هذه هي النتيجة؛ لأن هناك وعداً من الله سبحانه وتعالى، ولم يكن موسى عليه السلام إذ ذاك يعلم كيف سيكون الخلاص؟ هو يعلم أن ثمة خلاصاً لكنه لا يعلم كيف يكون، ثم جاء السبب اليسير: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:٦٣]، فلما مر موسى ومن معه وجاء فرعون ومن معه أطبق البحر عليهم فماتوا غرقى.

والنبي صلى الله عليه وسلم في أثناء الهجرة لما كان مختفياً في الغار وتتبع قصاص الأثر أثره وأثر أبي بكر حتى وقفوا على فم الغار.

يقول أبو بكر: (لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟).

وانظر إلى صحابة النبي رضوان الله عليهم عندما حلت بهم بعض الهزيمة في أحد: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣]، وانظر إليهم في الأحزاب وقد اجتمعت عليهم ظروف عصيبة ورهيبة: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:٢٢].

هكذا كان أملهم في الله عز وجل، إنهم ينتظرون إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة، إنهم مستقيمون على أمر الله، ثابتون على دين الله، يعلمون أن الفرج من عند الله سبحانه وتعالى، فينبغي ألا يسري اليأس إلى نفوسنا، وألا يداخل القنوط قلوبنا، فإن الأمل في الله عظيم، وإن الخير في أمة الإسلام عميم.

أسأل الله عز وجل أن يفرج هموم المسلمين، وأن ينفس كروبهم، وأن يعجل نصرهم، وأن يقرب فرجهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.