للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مواقف المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم]

ليس هناك أكثر محبة ولا أصدق ولا أعظم محبةً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وخذ هذه المواقف، وكل واحد منها حري بنا أن نعيده وأن نكرره ونحفظه ونتذكره لنعلم كيف كانت محبة القوم رضوان الله عليهم.

هذا عمرو بن العاص يقول مصبراً نفسه: ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه.

من هيبته لم يكن يستطيع أن يتفرس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن محبته كان يتوق ويشتاق إليه عليه الصلاة والسلام.

وسئل علي بن أبي طالب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخذ هذا الوصف من ابن عمه وزوج ابنته والفصيح البليغ علي بن أبي طالب؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ.

وهذا من مآثر الصحابة رضوان الله عليهم.

وروى الشعبي -والحديث بطرقه حسنه أهل العلم- أن رجلاً من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! لأنت أحب إلي من نفسي وولدي وأهلي ومالي، ولو أني لم آتك فأراك لظننت أني سأموت.

ثم بكى الأنصاري رضي الله عنه.

يقول: أنت أحب إلي، والآن هناك فرصة، فآتي فأراك فتسكن نفسي، وإن كنت أتصور أني لا أراك سأموت.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أبكاك؟ قال: ذكرت يا رسول الله أنك ستموت فترفع مع النبيين ونحن إذا دخلنا الجنة كنا دونك.

يعني: لن أراك في الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبره بشيء حتى نزل قوله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:٦٩] فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر) فبشره بأنه يكون معه مادام قد أحبه.

ومن أعظم هذه المواقف ما رواه أنس رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحد خاص أهل المدينة حيصة -يعني: في القتال عندما اختلت الأمور- قالوا: قتل محمد صلى الله عليه وسلم.

حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها -يعني: كلهم ماتوا واستشهدوا رضوان الله عليهم- قال: وما أدري بأيهم استقبلت أولاً، فلما مضت على أحدهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك، أخوك، زوجك، ابنك، وهي تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: أمامك.

وهي ما زالت تمضي، قال: فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب).

وفي رواية أخرى لـ سعد بن أبي وقاص في قصة هذه المرأة قالت: (ما فعل رسول الله؟ قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين.

قالت: أرونيه حتى أنظر إليه.

فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل).

أي: هينة.

وأبو بكر رضي الله عنه لما كان في مكة واجتمع كفار قريش يريدون أن يضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يدافع عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتركوا الرسول وتوجهوا إلى أبي بكر وضربوه بنعالهم، قال الراوي: فضربوه بنعالهم في وجهه حتى سقط مغشياً عليه، ولم يعرف وجهه من أنفه -أي: من شدة التورم- قال: ثم حمل ما يشك في موته من شدة ما لقي من الضرب.

قال: فلما أفاق كان أول ما قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير كما تحب.

قال: لا حتى أراه.

فحمل يهادى بين الرجلين، فلما رآه تهلل وجهه فرحاً رضي الله عنه وأرضاه.

وهذا من مواقف الحب الصادق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذه المواقف العظيمة ما كان من قصة زيد بن الدثنة رضي الله عنه، الذي أسره أهل مكة، ثم خرجوا به ليصلبوه، وقد صلبوه بالفعل، فقال له أبو سفيان -وكان إذ ذاك على كفره-: أتحب أن محمداً مكانك وأنت في أهلك وولدك؟ أي: أنت الذي اتبعت محمداً صلى الله عليه وسلم فجاءك هذا الموقف، والآن ستصلب فهل تحب أن يكون محمد مكانك وأنت في أهلك وولدك.

فماذا كان الجواب؟ قال: والله ما أحب أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة وأنا في أهلي وولدي.

فقال أبو سفيان: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم-.

أعظم حب وأوفاه وأوسعه، ولذلك قالوا: نفديك بأنفسنا وأرواحنا وهناك مواقف كثيرة لابد من ذكرها لبعض السلف من التابعين لنعرف أن هذه المحبة هي جوهر إيماننا وأساس من أسس إسلامنا.

هذا مالك بن أنس يقول عن أيوب السختياني رضي الله عنه: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أوثق منه.

يعني: في مكانة عالية رحمه الله.

قال عنه مالك: وحج حجتين -وحج مالك معه-، قال: فكنت أرمقه ولا أسمع منه.

يعني: لا يسمع منه الحديث، قال: غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه.

أي: أخذ عنه الحديث لما رأى من إجلاله وفيض محبته وتأثره بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا مصعب بن عبد الله يروي عن مالك، يقول: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه -أي: يشفقون عليه- فقيل: له في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون! وذكر الإمام مالك محمد بن المنكدر من أئمة التابعين، وكان سيد القراء، قال: ما نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه رحمه الله.

والحسن البصري جاءنا بمثل جميل، وهذا باب ضاق المقام عن أن أذكره، وهو حب الجمادات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث: (أحد جبل يحبنا ونحبه) والجذع الذي كان يخطب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فلما بني له منبر طلع يخطب على المنبر، فإذا الجذع يحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع له حنين سمعه الناس كلهم، فنزل النبي عن المنبر فوضع يده على الجذع فسكنه فسكن، وكان الحسن البصري رحمه الله إذا ذكر حديث حنين الجذع وبكائه يقول: يا معشر المسلمين! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إلى لقائه، فأنتم أحق أن تشاقوا إليه صلى الله عليه وسلم.

ويقول بعض السلف: كنت آتي صفوان بن سليم -وكان من المتعبدين المجتهدين- فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم عنه الناس ويتركوه.

وأختم هذا الباب بهذه القصة وأذكرها بطولها، وقد ذكرها الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء، وهي قصة رائعة، والذهبي إمام من أئمة أهل السنة، وجهبذ من الجهابذة ومن النقدة أئمة الجرح والتعديل، ولا يكون عاطفياً تماماً دون أن يكون له الأساس والمستند العلمي، يقول في ترجمة عبيدة بن عمرو السلماني -وهو من التابعين من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه- يقول: محمد: قلت لـ عبيدة: إن عندنا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من قبل أنس بن مالك فقال: لأن يكون عندي منه شعرة أحب إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض.

يعني: أحب إلي من كل ذهب وفضة في الأرض قال الذهبي: قلت: هذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس.

ومثل هذا يقوله هذا الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين سنة، وهو من التابعين وليس بعيد العهد بالنبوة، ويقول الذهبي: فما الذي نقوله نحن في وقتنا، لو وجدنا بعض شعره بإسناد ثابت، أو شسع نعل كان له، أو قلامة ظفر، أو شقفة من إناء شرب فيه، فلو أنفق الغني معظم أمواله في تحصيل شيء من ذلك عنده أكنت تعده مبذراً أو سفيهاً؟ كلا.

فابذل مالك في زيارة مسجده الذي بنى فيه بيده، والسلام عليه صلى الله عليه وسلم عند حجرته في بلده، والتذ بالنظر إلى أحده وأحبه، فقد كان نبيك صلى الله عليه وسلم يحبه، وتملا بالحلول في روضته ومقعده، فلن تكون مؤمناً حتى يكون هذا السيد أحب إليك من نفسك وولدك وأموالك والناس كلهم، وقبل حجراً مكرماً نزل من الجنة، وضع فمك لاثماً مكاناً قبله سيد البشر بيقين، فهنأك الله بما أعطاك، فما فوق ذلك مفخر، ولو ظفرنا بالمحجن -يعني: العصا -الذي أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحجر ثم قبله لحق لنا أن نزدحم على ذلك المحجن بالتقبيل والتبجيل.

ونحن ندري بالضرورة أن تقبيل الحجر أرفع وأفضل.

ثم قال: وقد كان ثابت البناني إذا رأى أنس بن مالك أخذ يده فقبلها، ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول الذهبي: فنقول نحن إذ فاتنا ذلك -يعني: ليس عندنا يد أنس، فكيف نقبل شيئاً قبله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ - حجر معظم بمنزلة يمين الله في الأرض مسته شفتا نبينا صلى الله عليه وسلم لاثماً له، فإذا حججت فقبل، وإذا فاتك الحج وتلقيت الوفد فالتزم الحاج وقبل فمه، وقل: فم مس بالتقبيل حجراً قبله خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا من نفائس القول لأئمتنا وعلمائنا رحمة الله عليهم ورضوان الله عليهم أجمعين، والباب في هذا يطول كما ذكرت.