للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب التحرز في المطعم والمشرب والملبس وجميع أنواع الكسب]

وهناك مصرع آخر ومهوىً ردي آخر أمام المال؛ وما أدراك ما المال؟ فكيف هو اليوم مع فشو الربا وانتشار الرشوة وكثرة المحرمات في المفاسد والمطاعم حتى كأن البراءة من ذلك عند بعض ضعاف الإيمان اليوم هي في نطاق المستحيل الذي لا يمكن بحال من الأحوال؟! أليس اليوم قد تدنست المشارب والمطاعم، واختلطت المآثم بالمكاسب؟ ألسنا اليوم نرى أن الناس قد استحلوا ما حرم الله من المكاسب المالية حتى كأنهم لا يجدون في أنفسهم حرجاً من ذلك، ولا تنقبض له نفوسهم، ولا تضطرب له قلوبهم، ولا يرون فيه إلا أنهم يأخذون بأسباب الحياة، وقصارى ما قد تجده عند أحدهم أن يفسر ذلك بأن الضرورات تبيح المحظورات، ويعملون القواعد في غير مكانها؟! عجباً لنا معاشر المؤمنين! وزادنا من القرآن، ونصيبنا من هدي المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم يفيض عذباً زلالاً ليس فيه شائبة ولا كدر، يدعو إلى نفوس نقية وقلوب زكية وأيدٍ طاهرة ومكاسب ليس فيها أدنى شبهة.

روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة مطعم) رواه أحمد وغيره بسند حسن.

فقوله: (وعفة مطعم) أي: أن تعف عن كل شبهة وحرمة في الكسب من طعام وشراب ولباس.

عجباً لنسائنا اليوم! لا يتذكرن أن على المرأة المؤمنة أن تقف عند باب بيتها توصي زوجها وهو خارج لعمله وكسب قوته وتقول له: يا هذا! اتق الله في رزقنا؛ فإننا نصبر على الجوع، ولكننا لا نصبر على النار، فما بالها اليوم تقول له: حصل وحصل، واكسب واكسب، ولا عليك من قول هذا ولا ذاك، وكأنما استطعم الناس أن يأكلوا في جوفهم النار، والعياذ بالله! ألسنا نتذكر ما روى البخاري من قصة أبي بكر رضي الله عنه: أنه كان له غلام يخدمه، فجاءه يوماً بطعام فأكل منه، فقال الغلام: أتدري ما هذا؟ قال: ما هو؟ قال: كسب كسبته في الجاهلية من كهانة كذبت فيها عليه وخدعته، فأدخل أبو بكر أصبعه في فمه واستقاء كل ما أكل، أراد ألا يدخل جوفه شيء من حرام رغم أنه لم يكن به عالماً، ورغم أن الكسب كان في جاهلية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والإسلام يجب ما قبله)، لكنهم عرفوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإنه أمر المؤمنين بما أمر به الأنبياء والمرسلين: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:٥١])، ذلكم ما أخبرنا به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فكسب الحرام يعمي البصيرة، ويطمس القلب، ويذهب نوره، ويوهي الدين، ويضعف أثره، ويوقع في حبائل الدنيا، ويحجب إجابة الدعاء، فإن وجدتم كثيراً من ذلك فلا تعجبوا؛ فإذا عرف السبب بطل العجب.

وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً من دلائل وعلائم نبوته صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذه منه -أي: من المال- أمن الحلال كان أم من الحرام!)، وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فاليوم نحن نرى الغصب رأي العين، والرشوة في كل مكان، والسحت والربا له قوام وكيان، ألا يصدق في ذلك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ فأين إشراق الإيمان في القلوب؟! وأين رسوخ اليقين في النفوس؟! وأين التعلق بما عند الله من نعيم يعظم ويفوق كل الدنيا وما فيها وما بها من نعيم أهلها؟! ألسنا نذكر أهل الإيمان؟! استمع لفقه الإيمان وهو يعطينا الميزان الذي ينبغي أن نلتفت إليه، هذا ميمون بن مهران يقول لنا: لا يكون المرء تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه؟ ووهيب الوردي رحمه الله يقول: لو قمت في العبادة قيام سارية -أي: واقفاً منتصباً غير متحرك قائماً لعبادة ربك- ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك.

فأين الإيمان الذي يدفع إلى الورع والتحري في المكاسب والمطاعم والمشارب؟! قال الشاعر: المال يذهب حله وحرامه يوماً وتبقى في غد آثامه ليس التقي بمتقٍ لإلهه حتى يطيب شرابه وطعامه ويطيب ما يحوي ويكسب كفه ويكون في حسن الحديث كلامه نطق النبي به عن ربنا فعلى النبي صلاته وسلامه