[من الشرك تحكيم القوانين الوضعية]
وحقيقة الشرك بالله كما يقول السعدي في تفسيره: أن يعبد المخلوق كما يعبد الله، أو يعظمه كما يعظم الله، أو يصرف له شيئاً من خصائص الألوهية والربوبية، وهكذا الذين يعظمون غير الله تعظيماً يشابه تعظيمهم لله، فيخضعون لهم، ويوافقونهم، ويتابعونهم، ويقرون لهم بما يخالفون به شرع الله عز وجل، فإنه يصدق فيهم قول الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١].
ثم نبين بعد ذلك أمراً مهماً، وهو ما يتعلق بصور كثيرة من معارضات هذا التوحيد التي -وللأسف الشديد- فشت وانتشرت في ديار الإسلام إلا ما رحم الله، ولعل أبرزها ما قلنا إنه متصل بهذه الآيات في معناها، وهو تحكيم غير شرع الله، والرضا بحكم غير حكم الله، أو النظر إلى حكم الله وتشريع رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح لهذا الزمان، ولا يتناسب مع هذا العصر، وأنه ينبغي لنا أن نغير ونبدل ونحسن؛ حتى نظهر أمام المجتمعات الدولية بمظهر حضاري كما يقال.
ولست أريد أن أتحدث من تلقاء نفسي، فكلام علماء الإسلام في القديم كثير، أكتفي منه بنزر يسير، وأنقل لكم بعض أقوال علماء العصر في هذا الزمان، سواء من مات منهم أو من بقي؛ لنرى أن القضية ليست قضية تشدد أو تطرف كما يقال، بل هي قضية دين حق: آيات تتلى، وأحاديث تروى، ومفاهيم واضحة، ومعاقد عقدية فاصلة ينبغي أن تكون واضحة.
قال الجصاص رحمه الله في هذا المعنى: من رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة.
ويقول ابن تيمية رحمه الله: الإنسان متى أحل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه، كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء.
إذاً: فخطئوا فقهاء الإسلام كلهم، وخطئوا إجماع الأمة كلها؛ لتقولوا لنا: إن مثل هذا القول يدخل في هذا الباب أو ذاك الباب، أو هذا التصنيف أو ذاك التصنيف.
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية سابقاً: إن من الكفر الأكبر المستبين: تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، ثم ذكر القوانين الوضعية فرنسية وبريطانية مما يحكّم أو يحكم به في بعض ديار الإسلام.
وقال ابن باز رحمه الله المفتي السابق: قد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله، أو أن غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر.
كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج على شريعة محمد أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال، وكم نسمع اليوم من يأتينا بأمثلة قد ذكرها أيضاً علماء العصر! فقد ذكر الشنقيطي هذا الحكم، فقال: الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على لسان أوليائه، مخالفة لما شرعه الله عز وجل على ألسنة رسله، لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.
ثم ضرب لنا أمثلة فقال: كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، بل يلزم استواؤهما في الميراث، وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوها أعمال وحشية لا يسوغ فيها بالإنسان، ونحو ذلك.
وأظننا جميعاً نعلم أن مثل هذه المقالات تقال، وتكتب في الصحف، وتسمع في الإذاعات، وترى في المقابلات على الشاشات، ويتحدث بعض الناس فيها على أنها سجال ورأي وحرية فكر! ولا يفرقون بين حرية فكر وحرية كفر تنقض الدين من أصوله، وتأتي على مناقضة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأختم بقول لشيخ الأزهر سابقاً محمد الخضر حسين يقول فيه: أما أن تفعل البلاد الإسلامية ما فعلته البلاد الغربية من تجريد السياسة من الدين، فهو رأي لا يصدر إلا عمن يُكِن في صدره أن ليس في الدين من سلطان على السياسة، وهذا ما يبثه فئة يريدون أن ينقضوا حقيقة الإسلام من أطرافها؛ حتى تكون بمقدار غيرها من الديانات الروحانية التي فصلها أهلها عن السياسة، ثم صبغوا هذا المقدار بأي صبغة أرادوا، فيذهب الإسلام، فلا القرآن نزل، ولا محمد صلى الله عليه وسلم بُعث، ولا الخلفاء الراشدون جاهدوا في الله حق جهاده، ولا الراسخون في العلم سهروا في تعرف الأصول من مواردها، وانتزاع الأحكام من أصولها.
هذه أقوالهم تقول: إن من يقول ذلك ينقض عرى الإسلام، ويخلخل قاعدة التوحيد والإيمان، نسأل الله عز وجل السلامة، ونسأل الله عز وجل أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يجعل توحيدنا خالصاً لوجهه الكريم، سالماً من كل شرك وشبهة ورياء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.