للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المسلم والمعصية]

ثم أنتقل إلى نقطة ثالثة لعلها من أهم النقاط: المسلم والمعصية.

ليس المسلم هو الذي لا تقع منه المعصية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، ولكن المسلم الصادق المؤمن المخلص عنده من رحمة الله ومن نعمة الله ومن آثار الإيمان ومن بركات الإسلام ومن خيرات الطاعة ما يجعله متميزاً عن الكافر؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب، فهل ترون كافراً يفكر في آخرة أو يفكر في حقيقة العبودية أو حقيقة الألوهية أو غير ذلك مما أشرنا إليه؟! لا يفكر؛ لأنه قد طمس قلبه وانتهى أمره إلى غير رجعة إلا أن يأذن الله له أن ينور قلبه بالإيمان بعد الكفر.

أما المسلم فله مزايا: من أعظم هذه المزايا وآكدها: أنه يستشعر أثر الذنوب والمعاصي، ويعرف أن لها آثاراً قوية عظيمة ليست على مستوى الفرد، بل على مستوى المجتمع، وليست على مستوى البشر بل على مستوى الكون كله، ولذلك أفاض أهل العلم في ذكر هذه الآثار، ولست بصدد ذكرها تفصيلاً، وإنما أجمل ما ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في مقالاته الجامعة، أما تفصيل ذلك وتفريعه فقد عقد له كتاباً كاملاً أسماه: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، صنفه رحمة الله عليه جواباً على سؤال ورد إليه عن المعاصي وكيفية البرء منها والإقلاع عنها والهجر لها، فصنف ذلك المصنف العظيم، يقول ابن القيم في ذكر أثر المعاصي على الفرد: من ذلك: قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهم والغم، وضنك العيش، وكشف البال.

كل هذا من آثار هذه المعاصي، أفلا يشعر الواحد منا ببعضها؟! أفلا ينقبض يوماً صدرك ويعلوك الهم ويركبك الغم؟! أفلا تجد يوماً أنك تريد أن تحفظ فتحرم الحفظ؟ أفلا ترى يوماً أن عدواً قد سلط عليك، أو أن سفيهاً قد اجترأ عليك؟! والسلف رحمهم الله كانوا يردون كل شيء يقع لهم إلى الذنوب التي وقعت منهم، إنه فقه إيماني بصير يجعل كل شيء مرده إلى قول الله سبحانه وتعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:١٦٥]، فنحن إنما نؤتى من قبل أنفسنا، ومن زيغ قلوبنا، ومن تحول نياتنا، ومن سوء سلوكنا، ومن فلتات كلماتنا، ومن نزغات شهواتنا، ومن خيانة أبصارنا، إنما نؤتى ونحرم ونعاقب من مثل هذه المعاصي، فالمسلم الحق رغم وقوعه في المعصية إلا أنه يستشعر أثرها، ولذلك الذي يدرك الأثر يوشك -بإذن الله عز وجل- أن يطلب يوماً خلاصه من هذا، فالذي يعرف سبب المرض كالزكام الذي يحل به أو سبب الحساسية التي تقع له، ولو تحملها مرة وثانية فإنه بعد فترة سيطلب العلاج، ويلتمس البرء من هذا، أما الذي لا يستشعر ذلك من أصحاب الغفلة أو الكفر -نسأل الله السلامة- فإنه لا يطلب علاجاً؛ لأنه لا يرى ضرراً، ولا يستشعر مرضاً.

وذكر ابن القيم في موضع آخر شأن الآثار التي تنتظم الكون كله من أثر المعاصي، فقال: اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله! منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة، وبابها مفتوح، وكأنكم -أي: إذا تباطأتم وسوفتم- بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق، وبالجناح وقد علق، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

فلله در ابن القيم ما أجمع كلماته! فقد جعل كل شيء في الأرض وفي السماء وفي البشر وفي الملائكة، وفي الليل وفي النهار متأثر بهذه المعصية، وحق له ذلك، والله عز وجل يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:٤١]، قال ابن القيم في (الجواب الكافي) في تفسير هذه الآية: من آثار المعاصي حصول الفساد في الماء والهواء.

وما أمر الزلازل وتلوث البيئة وما يقع من كوارث هنا وهناك إلا من أثر هذه المعاصي والذنوب، وكيف لا تكون هذه عقوبات لهذه المعاصي، إنها ليست قضية معصية، إنها قضية عداوة واجتراء وعدم تقدير ولا توقير لله سبحانه وتعالى، أفرأيتم لو أن عبداً حقيراً جاء إلى ملك عظيم وسلطان كبير ثم اجترأ عليه بكلمة شتمه بها أو بسلوك تعدى فيه على حرمته أو تعدى فيه على بعض ماله فلا شك أنه لا يقوم لغضبه قائم، وأنه يبطش به بطشاً يجعله عبرة للمعتبرين، بل ربما يتجاوز غضبه هذا الفرد ليعم سائر الرعية كلها، بل قد يدمر حتى غير البشر من الممتلكات والأموال، وهذا واقع في حق الناس، فكيف إذا كان الأمر في حق الله سبحانه وتعالى ملك الملوك ورب الأرباب سبحانه وتعالى؟! فإنه جل وعلا -كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام- أشد غيرة من خلقه، وإن غيرة الله عز وجل أن تنتهك محارمه، وما أحلمه سبحانه وتعالى! وما ألطفه بعباده فإنه يمهل، ولكنه لا يهمل، ولو كان الله سبحانه وتعالى يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، ولكان أكثر الناس يستحقون أن يخسف بهم، وأن يطمس على قلوبهم، وأن تعمى أبصارهم، وأن تهلك أموالهم، وأن يقع لهم من الوباء والبلاء ما الله سبحانه وتعالى به عليم، ولكنه جل وعلا من لطفه ومن صلاح الصالحين ومن دعاء الداعين يخفف بعض ذلك.

وقد ذكر ابن القيم أن الحيوانات والبهائم تشكو إلى الله عز وجل من العاصين والفاسقين؛ لأنه بهم وبمعصيتهم يمنع الله عز وجل القطر من السماء، ويقع الجدب في الأرض، وتقع البلايا والرزايا، وما لهذه البهائم من ذنب، ولكنه ذنب هذا الإنسان الذي استعلى على الله عز وجل وتجبر وتكبر وطغى وبغى وفسد في هذه الأرض، ولا يألو على شيء، فيسير هنا وهناك، وينسى قبضة الله عز وجل وقوته وقهره، ولذلك تشكو هذه الحيوانات، وكما قيل: لولا شيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لم تمطروا، فإن الله سبحانه وتعالى ما أنزل عقوبة إلا بذنب، وما رفعها إلا بتوبة، كما ذكر أهل العلم والإيمان.