فكروا أحبتي! وليدر كل في نفسه هذا السؤال وفي خاطره تلك الصور من حياته: كم مرة في يومه، أو في أسبوعه، أو في شهره بل ولا أبالغ إن قلت: في عامه انكسر بين يدي الله، وشعر أنه في شدة الحاجة إليه، وأن ليس عنده ما يفضي به إلى الله؟ فكم نحن في غفلة نلتمس أسباب نجاتنا وعون حياتنا وشفاء أمراضنا من الأسباب البشرية دون أن تتعلق قلوبنا برب البرية سبحانه وتعالى؟ يقول ابن القيم رحمه الله: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به سبحانه وتعالى، وصدق اللجأ إليه، ودوام التضرع والدعاء والتقرب إليه.
إنها نعمة يسوقها الله لمن أحب؛ فيجعله لا يرى أحداً، ولا يتعلق بأحد، ولا يرجو أحداً إلا خالقه ومولاه سبحانه وتعالى؛ لأنه قد ملئ قلبه بهذا الإيمان، واستشعر دائماً من إيمانه أهمية الصلة بربه، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله ويستغفره في كل يوم وليلة مائة مرة.
قال الشاعر: فقيراً جئت بابك يا إلهي ولست إلى عبادك بالفقير غنياً عنهم بيقين قلبي وأطمع منك بالفضل الكبير إلهي ما سألت سواك عوناً فحسبي العون من رب قدير إلهي ما سألت سواك هدياً فحسبي الهدي من رب نصير إذا لم أستعن بك يا إلهي فمن عوني سواك ومن مجيري لسان حال المؤمن افتقار إلى الله يستحضر به قول الله جل وعلا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}[النمل:٦٢]، فلمَ لا نلجأ إلى الله إلا إذا ادلهمت الخطوب، وتوالت الكروب، وعظمت الرزية، وكبرت البلية؟ ولمَ لا تكون القلوب دائماً مفضية إلى خالقها، منيبة إليه، موصولة به، راجية منه؟ ذلك هو حال المؤمن، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر:١٥]، وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يشجع كل مؤمن ويحيي هذه المعاني في قلبه، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفراً، حتى يضع فيهما خيراً).
رواه الترمذي.
لا يخيب من دعا الله، ولا يضل من استهداه ولا يخذل من استنصر بالله سبحانه وتعالى، دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد في غير وقت الصلاة فوجد أبا أمامة جالساً، فسأله:(ما لك يا أبا أمامة! في المسجد في غير وقت صلاة؟ فقال: يا رسول الله! هموم لزمتني، وديون أثقلتني، فقال له رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على ما يفرج الهم ويقضي الدين؟ قل: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)، وهذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي ورد ذكره واستحسن العلماء أن يذكره المسلم في أذكار صباحه ومسائه، فكم كرب يمر علينا؟ وكم من ظروف وهموم تنزل بنا؟ فهل لجأنا فيها إلى الله؟ إن دعوة ضارعة خاشعة في خلوة وظلمة تسكب في نفسك من الرضا ومن السكينة والطمأنينة ما يذهب همك، ويزيح غمك، ثم يفرج الله عز وجل، فإنه مفرج كل كرب وميسر كل عسير سبحانه وتعالى.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.
إن الله سبحانه وتعالى بيده مفاتيح كل شيء، بيده الخلق والأمر، فما بالنا نغفل عن هذا ولا نجعل إيماننا دافعاً لأن نستحضر هذا المعنى بكل ما جاءت به الآيات وما وردت به الأحاديث؟ قال عز وجل:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:٢٦]، فمن يملك الملك حتى يعطيك؟ ومن يملك العز حتى يعزك؟ فما بالنا قد التجأنا إلى أسباب الدنيا وركنا إليها، واعتمدنا عليها كأن لا إيمان في القلوب ولا يقين؟ فكم نحن بحاجة إلى مثل هذا المعنى الذي تجلى دائماً وأبداً في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي حياة أصحابه، وأسلافنا من المؤمنين إلى يومنا هذا عندما جعلوا قلوبهم معلقة بالله سبحانه وتعالى!