[فاطمة وعلي رضي الله عنهما ومكابدة الحياة]
خذ هذه اللوحة المعبرة المؤثرة في هذه الحياة الزوجية: أقبل علي ذات يوم على فاطمة ودخل وهو منهك متعب مجهد من طبيعة الحياة وشدتها وكسب العيش وكده، فقال: والله! لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، والسانية: البعير الذي يستقى به الماء، كان علي يسقي الماء عن طريق الناقة وأحياناً بنفسه، قال: قد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه.
انتصر المسلمون في معركة، وكان عند الرسول صلى الله عليه وسلم سبي، فقال: اطلبي منه خادماً؛ فأنت ابنته أقرب الناس إليه وأحبهم إلى قلبه.
فذهبت فاطمة إلى أبيها عليه الصلاة والسلام، فقال: (ما جاء بك يا بنية؟) قالت: جئت لأسلم عليك.
واستحيت أن تذكر حاجتها، وقد قالت عندما قال علي ذلك: وأنا قد طحنت في الرحى حتى مجلت يداي.
والمجل: هو ثخن الجلد ووجود البثور فيه، وذلك من كثرة ما كانت تطحن الشعير رضي الله عنها وأرضاها، فلما ذهبت إلى أبيها استحيت أن تذكر حاجتها فرجعت، فقال علي: كلمتيه؟ قالت: لا.
فأخذها علي وذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي: والله -يا رسول الله- لقد سنوت حتى اشتكيت صدري.
وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي، قال: وقد أتى الله بسبي وسعة فأخدمنا.
فماذا قال القدوة العظمى صلى الله عليه وسلم؟ قال: (والله! لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانها)، فهناك أولويات، فهذان يريدان خادماً، وفي المسلمين من أهل الصفوة من لا يجد طعاماً، قال: (والله! لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم).
لكن هل قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تغمره الرحمة والشفقة على ابنته وفلذة كبده؟ بلى كان ذلك في نهار ذلك اليوم، وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم في مسائه وليله يأتي إليهما، ويطرق عليهما بابهما، وقد دخلا في كسائهما، وعليهما غطاء إن غطيا الرأس بدت الأقدام، وإن غطيا الأقدام بدا الرأس.
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأرادا أن يقوما فقال: (مكانكما.
ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ فقالا: بلى يا رسول الله! فقال: كلمات علمنيهن جبريل: تسبحان في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدان عشراً، وتكبران عشراً، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا ثلاثاً وثلاثين، فذلك خير لكما من خادم).
قال علي: فما تركتها منذ سمعتها، فقال ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟! قال: ولا ليلة صفين يا أهل الطرق! أي: أهل الفتن.
فذكر علي ذلك في محافظته على ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر إلى هذه الصورة: علي يشقى، وفاطمة تتعب، والسبي موجود، والأمر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه يريد لأحب أحبابه وأقرب المقربين إليه ما هو الأفضل والأكمل، لا يريد خادماً في الدنيا، وإنما خداماً في الجنة، يريد عمران الدار الآخرة قبل عمران هذه الدار، ولذلك صرفهما إلى عبادة، لكن في قلبه من الشفقة والرحمة ما جعله لا ينسى طلبهما، ولا ينسى أنما قاله لهما ربما أدخل إلى نفوسهما شيئاً من هم أو غم، فمسح ذلك بقدومه عليهما، وإيناسه لهما، وتقديمه الخير لهما عليه الصلاة والسلام.
وهناك صورة أخرى لنرى ما يدور في بيوتنا من المشكلات بين الزوجات وأمهات الأزواج، حتى أصبح هذا الباب باباً تسطر فيه الأقلام، وتمثل فيه التمثيليات والمشاهد كما نسمع، بل وتضرب فيه الأمثال.
فهذه رواية ابن عبد البر يذكرها في الاستيعاب عن ابن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري قال: قال علي لأمه: اكفي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الخدمة خارجاً وسقاية الماء والحطب، وتكفيك العمل في البيت والعجن والخبز والطحن.
وهذه صورة من بر الأم ورحمة الزوجة وألفة الأسرة الواحدة بعيداً عن الخصومات والنزاعات والمكائد التي تحفل بها كثير من البيوت من خلال ما يتسرب إلينا من الأفكار الدخيلة، والمضامين التي تبث عبر كثير من الوسائل والطرق مكتوبة ومرئية ومسموعة ونحو ذلك.
هذه ومضات من الحياة الزوجية لتلك الزوجة الأثيرة رضي الله عنها وأرضاها، وأحسب أن فيما نذكره من العبرة ما يغني عن كثير من التعليق والتفريع من كلامنا وقولنا، فحسبنا بهذه العظيمة الشريفة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان مهرها درعاً، وأن كان فراشها أدماً حشوه ليف، وأن كان تجهيز بيتها سقاءين ورحائين، وأن كانت معيشتها أن تخدم بنفسها وأن تقوم بحق زوجها رضي الله عنها وأرضاها.