[صبرها رضي الله تعالى عنها على البلاء]
يوجد الكثير من المناقب لـ فاطمة رضي الله عنها، لنرى قدوة للنساء، فالمرأة اليوم من أدنى عارض تجزع وتصيح وتتراجع ولا تكاد تحتمل شيئاً، أما فاطمة فهذه محطات من الابتلاء مرت فيها بنجاح منقطع النظير.
كلنا يعرف القصة الشهيرة المروية في السيرة لما ائتمر أبو جهل ومن معه من سفهاء قريش في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إذا سجد فضعوا سلا الجزور على رأسه وهو ساجد، وقام أشقى القوم عقبة بن أبي معيط ففعل ذلك، فلما نمى إلى فاطمة الخبر -وهي التي كانت في بيته عليه الصلاة والسلام- تحركت -وكانت صغيرة في السن- فذهبت فألقت ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ونظفته وطيبته، فما رفع رأسه من السجود إلا بعد أن فعلت ذلك.
لقد كانت ترى صناديد قريش وهم يتعرضون له عليه الصلاة والسلام بالأذى القولي والفعلي وتحتمل ذلك، وترى في صبر النبي عليه الصلاة والسلام قدوتها وأسوتها رضي الله عنها وأرضاها.
ثم بعد ذلك كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حصار الشعب الظلوم، عاشت ثلاث سنوات من أشد وأقسى السنوات التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والمسلمين الذين معه حتى أكلوا ورق الشجر، وحتى قرحت أشداقهم، ولقد روى سعد رضي الله عنه أنه ذهب يتبول قال: فإذا أنا أسمع قعقعة فأخذتها فإذا هي شنٌ -يعني: قطعة من جلد- فأخذتها فغسلتها فدققتها فسففتها فكانت قوتي أياماً.
هكذا كانوا وكانت فاطمة البنت الرقيقة الصغيرة الفتية في عمرها، وإذا كان قد تزوج بها علي وهي بنت خمس عشرة سنة في المدينة فكم كان عمرها إذ ذاك؟! كانت صغيرة رضي الله عنها وأرضاها، فصبرت واحتملت ومرت بهذه الظروف العصيبة وشظف العيش وشدته تتأسى بأبيها عليه الصلاة والسلام.
ثم من بعد ذلك كان فقد الأم العظيمة في عام سماه أهل السير (عام الحزن)، فقد كان من أشد ما مر برسول الله صلى الله عليه وسلم أن فقد زوجته خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها الحبيبة إلى قلبه المواسية له المؤازرة والمساندة له عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك عظيماً على أصغر البنات التي لم تكن تزوجت بعد وهي فاطمة رضي الله عنها، فصبرت واحتسبت ومضت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم من بعد كانت هناك محطة رابعة في معاناة الهجرة الحزينة، فيوم هاجر رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يصحب معه بناته، ثم من بعد أرسل أبا رافع مولاه فأخذ زينب وفاطمة رضي الله عنهما، فلحق بهم الحويرث الأشقى فنخز بعيرهما وآذاهما فسقطتا من عليه وقد وهت أجسادهما، وكانتا ضعيفتين، وهذا هو الذي أعلن النبي عليه الصلاة والسلام عنه وعن نفر معه يوم فتح مكة أن يقتلوا ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، وذلك لما فعل هذا الشقي ببنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومضت هذه الفتاة في ريعان شبابها تحتمل كل هذه الصعاب بإيمان عظيم وصبر جليل واحتساب للأجر عند الله سبحانه وتعالى، ومواصلة على الطريق دون جزع ولا تراجع ولا تضعضع ولا ضعف بحال من الأحوال.
ثم ماذا بعد ذلك؟ لقد كان موت الأخوة والأخوات، فإخوانها جميعاً ماتوا إبراهيم والقاسم أبناء النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك أخواتها واحدة إثر الأخرى وهي تشيع وتدفن رضي الله عنها وأرضاها، والحزن يملأ قلبها فينصب على يقينها وإيمانها، فإذا بها ترضى بقضاء الله وقدره، لكن ذلك أمره عظيم.
وقد ورد في بعض الروايات أنها شهدت أحداً، وكان لها شيء من المشاركة، ورأت ما رأت مما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم شج رأسه ودميت قدماه ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه، وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم! اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
ثم كان المصاب الأعظم الذي لم تتماسك بعده حتى أدركتها منيتها وحانت وفاتها، ذلك الحدث هو فقد الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، يوم قالت فاطمة رضي الله عنها عندما زارت النبي صلى الله عليه وسلم: واكرباه! فقال عليه الصلاة والسلام: (لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة).
ثم لما قضى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: واكرب أبتاه، إلى جبريل ننعاه، جنة الخلد مأواه.
ثم لما دفن عليه الصلاة والسلام قالت لـ أنس -كما في الصحيح-: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟! وفي بعض الروايات أنها ما رئيت مبتسمة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
وسنذكر الآن بعض فضائلها وما جاء في هذه القصص العظيمة، فكانت صابرة رضي الله عنها صبراً عظيماً يدلنا على ما ينبغي أن تتحلى به النساء المؤمنات من الصبر والاحتمال فيما يتعرضن له في طاعة الله سبحانه وتعالى والثبات على هذا الدين، لا أن يكون ذلك برقة وضعف وخور كما نرى، نسأل الله عز وجل السلامة.