للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدعوة إلى الله تعالى في كل زمان ومكان]

الصفحة الرابعة من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي من أعظم الصفحات، وقد أشرتُ إلى أمر التدرج، فإننا نحتاج أولاً إلى تلك المفارقة في الجاهلية؛ لئلا تنعكس علينا آثارها، وكذلك نحتاج إلى تلك المراجعة والخلوص من هذه الدنيا وأهلها؛ حتى نقوم المسيرة، ونحتاج إلى هذين المعلمين صلة بالله عز وجل لا تضعف؛ كي تُهيئنا هذه الصلة لحمل هذه الرسالة بكل قوة وعزم ومضاء، ثم نأتي إلى الصفحة الرابعة فإذا فيها قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:١ - ٧].

وهذه الآيات يعلق عليها صاحب (الرحيق المختوم) تعليقاً جيداً فيقول: فغاية الإنذار (قُمْ فَأَنذِرْ) أن يبلغ به العالم كله، فلم يحدد في هذه الآية أي نوع من الناس الذين يُنذَرون، بل هو إنذار للعالم كله، وللبشرية جمعاء، وغاية التكبير ألا يكون لأحد في الأرض كبرياء إلا وتكسر شوكته؛ حتى لا يبقى كبرياء إلا لله عز وجل، وغاية التطهير للثياب، وهجران الرجز، أن يتطهر الباطن، وتتزكى النفس من الشوائب، وغاية عدم الاستكثار بالمنة ألا يرى لنفسه ولجهده ولبذله في سبيل الله عز وجل أي شيء يذكر، بل ما يزال يبذل في سبيل الله عز وجل.

قوله تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:٧] إشعار بأن هذا الطريق فيه ابتلاء، وفيه عناء، وفيه معضلات ومشكلات تحتاج إلى هذا الصبر الذي يعين على هذا الطريق، ولذلك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما رجع من غار حراء، وجاء إلى زوجه خديجة وهو يقول: (دثروني زملوني)، فتنزلت عليه هذه الآيات، وكذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:١ - ٢]؛ وهنا: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:١ - ٢] هذا الذي تدثر بالأغطية؛ ليهدئ من روعه، وليجلب الدفء إلى جسمه، جاءه هذا الأمر؛ ليبين أن معلم الدعوة المهم هو ألا يكون المرء مسلماً في نفسه، ولا صالحاً في سلوكه فحسب، ولا يكفيه ما في قلبه من المشاعر، حتى ينطق لسانه، ويحرك جوارحه، ويمضي بهذه الدعوة مشرقاً ومغرباً بكل صورة؛ حتى يبلغ الغاية والمنتهى في الإنذار، وفي التكبير لله عز وجل، وفي هجران الرجز، وفي التطهير للنفس، وفي عدم الاستكثار فيما يطلبه في هذا الطريق، مما يدل على أن هذا المعلم مهم جداً.

فلا بد أن نربي الناس، وأن نعلمهم أن من تعلم شيئاً وجب عليه تبليغه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية)، وأن كل امرئ في عنقه مسئولية وأمانة أن يبلغ من دين الله عز وجل ما عرفه من حكم، أو من حكمة، أو من إصلاح يحتاج الناس إليه في هذه الحياة؛ حتى يشع نور هذا الدين في كل مكان، وحتى تغزو هدايته كل قلب، وحتى تطرق حلاوته كل أذن ومسمع.

ولذلك نجد في هذا المعلم: الدعوة وتبليغها، ونجد الدعوة وطريقها، ونجد الدعوة وأسلوبها الذي توافق في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:٢١٤]، فهذه الآية نزلت في سورة الشعراء، وقد كان في أولها قصة موسى عليه السلام منذ بعثته إلى خروجه من أرض مصر، ثم رجوعه ومواجهته لفرعون، ثم خروجه مع بني إسرائيل، وجاءت بعد ذلك قصص الرسل والأنبياء مع أقوامهم، وجاء بعد ذلك هذا الأمر الرباني، وكل ذلك التلخيص -سيما لسيرة موسى عليه السلام- بيان لطريقة الدعوة، وأنها -كما أمر الله عز وجل- تبدأ بالأقربين، وبالصورة التي ستأتي انتقاء وتجميعاً لأهل الإيمان، ثم مفارقة لأهل الباطل ومواجهة لهم.

فإذاً: بعد أن ندرك عظمة هذه الرسالة، فإن ذلك ينبغي ألا يكون أمراً فكرياً؛ لأن هذه الرسالة عظيمة، ولأن هذه المهمة خطيرة، ولأن هذا العمل جليل، بل ينبغي أن يتحول ذلك كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر واجب التنفيذ، وهو أن ينطلق المرء بالدعوة إلى الله عز وجل، وكما أمر سبحانه وتعالى.