لابد أن ندرك الترابط الوثيق بين التربية والتعليم، والتعليم والتربية، فإن التربية هي غاية التعليم، وإن التعليم هو وسيلة التربية؛ فلن يتربى من لم يتعلم، فكيف يستقيم سلوكه إذا لم يعرف فضل هذا السلوك الحسن، وذم ذلك السلوك السيئ، ونحو ذلك؟! وانتبهوا وتأملوا فيما جاء في كتاب الله عز وجل في الحظ والحث على العلم، إنه توجيه إلى العلم والمعرفة في الأمور الأساسية الكلية العقدية التصورية التي تغرس في القلب والنفس من المفاهيم والتوجهات ما هو كفيل باستقامة السلوك، وانتظام الأحوال، وربط الإنسان بين دنياه وأخراه، بين ما يعمله على هذه الحياة الدنيا، وما يعمله في تلك الحياة الأخرى، قال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[البقرة:١٩٤] أي: اعلموا علم معرفة بمعية الله وتأييده وتسديده لمن يستقيم ويخشاه ويعمل بأوامره ويجتنب نواهيه، وهذا علم مؤثر في القلب، ومحرك للنفس، وصائغ للسلوك، ومقوم للفكر، إنها معلومات ذات ترجمة عملية، قال عز وجل:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التوبة:١٠٥].
وانتبه إلى كثرة الآيات العاضدة لهذا المعنى كقوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[البقرة:١٩٦] أي: اعلموا حقيقة علمية معرفية أن من صفات الله عز وجل شدة عقابه، لكنها ليس مرادة لتكون معلومة تحفظ ولا معرفةً تعرف، وإنما لتكون تأثيراً في كل شيء في الإنسان قلباً وروحاً ونفساً وفكراً وسلوكاً ومعاملة، وتلك هي الثمرة الحقيقية.
قال عز وجل:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[البقرة:٢٢٣] تأمل هذا الربط الدائم بين التقوى والعلم! وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}[البقرة:٢٨٢] إنها حقيقة كل أهل الإيمان والإسلام يعرفونها، لكن التفاوت بينهم هو في مدى استقرارها في قلوبهم، وفي مدى تأثيرها في سلوكهم، وفي مدى توجيهها لأفكارهم.
قال تعالى:(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٢٢٣] أي: حتى يكون ذلك حافزاً لعملهم وإقبالهم على ربهم، وانتهاجهم للسبيل والطريق الموصل إلى رضاه، وذلكم هو ما ينبغي أن نتنبه له.
وقال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة:٢٣٣]، وقال سبحانه:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:٢٣١]، يجب أن نعلم ذلك؛ ليستقر في قلوبنا اطلاعه علينا، ومراقبتنا له، وحياؤنا منه، وصدق توكلنا عليه، وعظمة إنابتنا إليه، إنها معرفة محركة، إنه علم مربٍ، إنه تغيير حقيقي يتناول الإنسان في أعماق نفسه وقلبه، وفكره وعقله، وسلوكه وعمله، ولو مضينا لوجدنا من ذلك كثيراً، ولقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه في كتاب العلم ترجمةًَ مهمة فقال: باب العلم قبل العمل؛ ترجم بهذا ليدل على أهمية العلم قبل العمل، وليدل على أن غاية العلم إنما هو العمل، واستشهد بقوله سبحانه وتعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}[محمد:١٩]، فقوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، هذا العلم وتلك المعرفة هي بداية الطريق، ثم ينتج عنها السلوك، وينتج عنها العمل:(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، وتستقر حقائق الإيمان مؤثرة مغيرة في الواقع:(وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ).
وإذا نظرنا وجدنا ما يقابل ذلك، وجدنا كيف يكون حال العلم إن لم يورث سلوكاً مستقيماً وخلقاً قويماً، فأي شيء ينفع؟ إنه حينئذ يكون حجة على المرء وليس له، ويكون إثماً وليس أجراً؛ لأن العلم حجة على من علم؛ ولأن العلم إذا لم يخلص إلى النفس والقلب ويؤثر فيهما فإنه يكون عوناً لصاحبه -والعياذ بالله- على تسويغ المنكرات، وتحليل المحرمات، وتضليل الناس، والتلبيس عليهم بالشبهات؛ ولذا كانت فتنة العالم غير العامل عظيمةً في واقع الناس، ومن هنا حذر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وبين حين قال:(إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
وتنبه إلى هذا الجانب في النداءات والآيات القرآنية! قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال:٢٧] أي: كيف تقع منكم هذه الخيانة، مع علمكم بوحدانية الله، وحسن أسمائه، وكمال صفاته، وعظمته جل وعلا؟! وكيف يكون ذلك منكم وأنتم تؤمنون وتصدقون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتعرفون فضائله وشمائله عليه الصلاة والسلام، وتعلمون أوامره ونواهيه وهديه صلى الله عليه وسلم؟! وقوله تعالى:(وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، أي: تعلمون ما كلفكم الله به، وتدركون وتوقنون ما هو الواجب المناط بكم، والأمانة المربوطة في أعناقكم، فكيف تكون حينئذ خيانتكم؟ وكيف يكون انحرافكم بعد علمكم؟ وأي شيء أقبح من هذا؟ وأي أمر تكون فيه الحجة أعظم من مثل هذا الصنيع؟ فهل نريد نحن لأنفسنا فضلاً عن أبنائنا في المعاهد والمدارس أن يعلموا علماً، ويكون سلوكهم مخالفاً له؟ أتدركون ما معنى هذا وما أثره؟ إن معناه: ألا يكون في قلوبهم توقير ولا تعظيم للأوامر والنواهي الربانية والنبوية، ومن باب أولى ألا يكون هناك تعظيم ولا توقير للأوامر والنواهي والتوجيهات الأبوية في البيوت.