الآمال المشرقة ينبغي أن تعقبها أعمال، وقد يقول قائل: تكثرون من الحديث عن المآسي، ولا يكون هناك حديث عن المخرج والعمل؟ فأقول: كل بيده عمل، وكل في عنقه واجب، وكل مناط به مسئولية، وأول ذلك وآكده ذلك النداء القرآني العجيب الفريد الذي لو تحقق في الأمة لما كانت على هذه الحال من الذلة والضعف والهوان، وهو قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:١٠٢]، إنه تحرير الإيمان وتجريد الإخلاص، وتعظيم التقوى في القلوب لله سبحانه وتعالى، فهل نحن على صدق في إيماننا؟ وعلى يقين من إيماننا؟ وعلى التزام بإسلامنا؟ قال سبحانه:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}[آل عمران:١٠٣]، فهل القلوب متآلفة؟ وهل النفوس متآخية؟ وهل تحقق في الأمة قول الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات:١٠]؟ وهل تحقق قول الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف المسلمين ووحدتهم:(يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم)، وقوله:(مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) إنه لابد لنا أن نعلن الصلح مع الله عز وجل، وأن نبذل كل ما في وسعنا لنستنزل نصر الله سبحانه وتعالى، إنه إعلان صادق للإيمان الحق واليقين الراسخ بوعد الله سبحانه وتعالى، وتأكيد لحقائق هذا الإيمان بالولاء والبراء الشرعي، إنه ولاء لعباد الله المؤمنين وعداء للكفرة من أعداء الدين، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة:٥١] إنها المسألة المهمة التي تميز المسلم وتبعث فيه عزته، وتبين له أصالته حتى لا يكون تبعاً لشرق ولا لغرب، ولا ذنباً لقوي ولا صاحب سلطان، وإنما عزته بإسلامه، وإنما قوته بإيمانه، وإنما استنجاده واستغاثته بالله سبحانه وتعالى، ثم إعلان لاستقامة المسلم على تقوى الله عز وجل، تلك التقوى التي تقتضي منه أن يأتي بأوامر الله سبحانه وتعالى، وأن يجتنب نواهيه، فطهروا البيوت من المحرمات، وطهروا الألسنة من الأقوال الفاحشة، وطهروا الآذان من السماع المحرم، وامنعوا العيون من النظر الآثم، وطهروا الأموال من الكسب الخبيث، وأصلحوا أحوالكم يصلح الله سبحانه وتعالى حالكم؛ إنها معادلة لا يمكن أن تتخلف، كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرعد:١١].
إنها النعمة التي منَّ الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم حينما ألف بين قلوب أصحابه مهاجرين وأنصاراً، وأوساً وخزرجاً، وعبيداً وأحراراً، وأغنياء وفقراء، فكلهم كانوا قلباً واحداً، ونفساً واحدة راضية، وأمةً واحدة متماسكة، فينبغي أن نملأ القلوب بالحب للمؤمنين، والمودة لهم، وإحسان الظن بهم، والتماس العذر لهم، والرغبة في الخير لهم، والسعي لكل ما من شأنه أن يؤلف بين القلوب، ويوحد بين الصفوف، وينبغي أن نعلن الحرب على المفاسد الاجتماعية الأخلاقية المحرمة، وينبغي أن ننكر المنكر، وأن نأمر بالمعروف بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالأسلوب الذي يحقق حصول الخير وانتفاء الشر بإذن الله عز وجل.
ثم لابد كذلك أن نحيي هذه المعاني الإيمانية في كل مجلس وفي كل لقاء ومع كل أحد، وأن نجعل ألسنتنا لاهجة بذكر الله عز وجل، وبذكر حكمة الله عز وجل، وسنة الله عز وجل، وأن نذكر أخبار المسلمين ومآسيهم وأحوالهم لكل من حولنا، فنحن نجلس المجالس الطويلة وليس فيها إلا القيل والقال، والغيبة والنميمة، والتحدث عن الأموال والعقارات والسيارات، وكأنه لا شيء يشغلنا، وكأنه لا همَّ نحمله، وكأنه لا جرح ينزف في نفوسنا وفي أبداننا، وكأننا نغفو ونلهو ونلعب ولا ندري ما يحاك حولنا، ولا ما يدبر لنا، ولا ما يحل بإخواننا، فلماذا لا نتحرك هذه الحركة حتى نبقي معنى الإيمان حياً في القلوب، وحتى نبقي معنى النصرة للمسلمين حياً في النفوس، وحتى لا يركن الناس إلى الدنيا، وحتى لا يغفلوا فيحق قول الله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}[التوبة:٣٨]؟! فينبغي أن نسعى بالعمل؛ لأن حال الأمة اليوم هو من أعظم أسباب هزيمتها وضعفها وهوانها وغياب كلمتها: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود فهذه الحال ينبغي أن تغير، ولا تغير إلا بتغيير القلوب والنفوس، فعلينا أن نبدأ بالإخلاص والإيمان الصادق، وأن نبدأ بالعمل الخير الصالح، وأن نهجر المفاسد والمعاصي، وأن نكون ألسنة دعوة، وأن نكون نماذج حق تمتثل هذا الدين، وأن نساهم بعد ذلك ببذل أموالنا وببذل جهودنا لنصرة إخواننا المسلمين في كل مكان، بل حتى ببذل أرواحنا، وبالمشاركة الشعورية والمعنوية؛ فإن هذا مما يحيي معاني الإيمان والإسلام في الأمة، ومما يسر إخواننا الذين يلاقون العذاب والاضطهاد في كل مكان، ولابد مع ذلك كله أن نحيي معاني العلم الشرعي الذي يبصر الإنسان المسلم بحقيقة ما يحتاج إليه في هذه الدنيا، ويعرفه الأحكام التي ينبغي أن يتبعها، ويعرفه الأحوال التي ينبغي أن يكون عليها، كما يعرفه الحقائق التي تدلس عليه، والأوهام التي تلقى في طريقه، فإنه إن كان عالماً بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ميز بهذا بين الحق والباطل:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:٨١].