نحن اليوم نرى الناس في عصرنا قد مالوا إلى الدنيا، وشغلت بها عقولهم، وانخطفت من بريقها أبصارهم، وتعلقت بحبها قلوبهم، يوم نرى ذلك نسمع قول عمر يدوي في سمع الزمان، ويصب في قلب كل مسلم ذي إيمان، وهو يقول:(إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم؛ فإن كل محب يخوض فيما أحب).
وعندما نرى ذلك التميع والترخص والخور والضعف والتكاسل والتماوت الذي سرى في كثير من أبناء الأمة الإسلامية، بل في المتصدرين من قوادها وزعمائها، نستمع إلى قول عمر في حكمة موجزة، وكلمات بليغة معبرة سطرها في تاريخه الكريم، في تاريخه الوضيء وهو يقول:(إن هذا الأمر لا يصلح له إلا اللين في غير ضعف، والقوي في غير عنف).
لقد أرسلها حكمة، وطبقها واقعاً، فساس الأمة أعظم سياسة، وكان لها في عهده عظمة لا منتهى لها، حينما دك عروش كسرى وعروش قيصر، وحينما ذهبت جيوش الإسلام تفتح الأمصار، ثم يمضي الخليفة رضي الله عنه وأرضاه يمشي برجليه، ويركب على جمله؛ يتناوب مع غلام له، خرج من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يشق الصحراء إلى شمال الجزيرة؛ ليأخذ بيده مفاتيح بيت المقدس، ويفتحها باسم الله، ويرفع فيها ذكر الله عز وجل.
هكذا كان عمر رضي الله عنه، وهذا بعض ما يهيئنا إلى سيرته، وعندما نرى في واقعنا كثرة الجدل وقلة العمل نسمع عمر رضي الله عنه وهو يدعو قائلاً:(رحم الله امرأً أمسك فضل القول، وقدم فضل العمل)، فنحن أمة قوالة؛ تجيد كثيراً فن الخطب وتكثر كثيراً من الكلام مكتوباً ومقروءاً، مسجوعاً ومنثوراً ومنظوماً، ثم ليس لها في ميدان العمل إلا النزر القليل الذي لا يقدم متأخراً ولا يحرك ساكناً، إلا ما رحم الله، أما عمر فكان قليل الكلام كثير العمل رضي الله عنه وأرضاه.
وعندما نرى الأمانة التي ضُيعت والمسئولية التي غيبت نسمع عمر يخشى أن يُسأل عن بغلة تعثر في أرض العراق: لِمَ لم يسو لها الطريق؟ ونحن نعلم عمر وهو يعس في الليل؛ لينظر هل من شاكٍ أو من باكٍ أو محزون، ونذكر واقع الأمة اليوم ونسمع عمر وهو ينادي في سمع الزمان:(من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يحمله على استعماله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ومن استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله)، وعندما يكثر اللغط واللغو، وتمتلئ المجالس بذكر السوءات وتلمس العثرات تأتينا مقالة عمر وهي نصيحة أثمن من الذهب والألماس وكل ما يغلو ويعز في هذه الدنيا وهو يقول لنا:(إياكم والحديث عن الناس! فإنه داء، واشغلوا أنفسكم بذكر الله؛ فإنه دواء).