[ذكر بعض فضائل المعلمين]
سوف نركز في هذا الموضوع على جوانب محصورة ومحدودة أمضي فيها مختصراً القول، وأدع بعض النصوص والنقول إلى آخر الحديث طمعاً في أن لا نترك بعض هذه الموضوعات، وأملاً في أن تكون هذه التوجيهات أو هذه الكلمات التي أخترتها موصولة حتى تمكن الاستفادة منها بإذن الله عز وجل.
أولاً: من أنتم؟ وهذا ليس بسؤال غريب، وإنما هو تأكيد وتذكير وإحياء لمعنى المعلم ومفهوم المعلم ورسالة المعلم، فنحن نريد ابتداءً أن يعرف المعلم نفسه، وعندما نذكر بعض النقاط قد يقول بعض المعلمين -وأعرف هذا من خلال ممارستي ومن خلال معايشتي لكثير منهم-: إن هذه نقاط أو مسميات أو مدلولات نظرية، ولكن الواقع يخالفها.
وأيضاً سيقول فريق آخر: هذا الوصف الذي سيذكر عن المعلم لا يعترف به أكثر الناس، ولا يعرفه مجمل من لهم تأثير في واقع المجتمعات.
أقول: كل هذا قد يكون حقيقة، لكن أعظم شيء وأهم شيء هو أن يعرف المعلم نفسه، وأن يكون مقتنعاً بهذا الوصف، فإذا كنت -على سبيل المثال- تعرف نفسك أنك ذو مال فلا يضرك أن يقول الناس: إنك فقير معدم.
أو لا يعرف كثير من الناس أن عندك هذه القدرة، لكن إنما يحصل الخلل عندما تكون ذا مال وتظن وهماً أو خطأً أو من كلام الناس أنك فقير معدم، وهذا هو الخطأ الأكبر، ولذلك فإن المهمة الأولى أو الرسالة الأولى أو البرقية الأولى هي من أنتم أيها المعلمون والمعلمات؟! من أنتم في حقيقة كلام الله عز وجل وفي منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي دين الإسلام، وفي واقع الحياة، وفي مستقبل الأمة؟ ينبغي أن نركز على هذا المفهوم تركيزاً نظرياً، وأن يكون أيضاً قضية فكرية وشعورية تلامس القلب والنفس، حتى يمكن أن يتحمل المعلم الأخطاء الواقعة في المجتمع لفهم مهمته، ولفهم منزلته ومكانته، فمن أنتم أيها المعلمون؟! أقول في برقيات سريعة: أولاً: أنتم المرفوعون -أي: عند الله سبحانه وتعالى- لقوله سبحانه: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:١١].
ثانياً: أنتم المندوبون -أي: عن الأمة- كما قال جل وعلا: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:١٢٢].
ثالثاً: أنتم الوارثون -أي: الوارثون لأعلام النبوة- كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك بقوله: (العلماء ورثة الأنبياء).
رابعاً: أنتم المأجورون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين عظمة الأجر الذي يلقاه معلم الناس الخير، في قوله عليه الصلاة والسلام: (من علم علماً فله أجر من عمل به، ولا ينقص ذلك من أجر العامل شيء)، وفي حديثه الآخر: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله).
خامساً: أنتم المحسودون؛ لأنكم -كما سبق أن أشرت- وارثون للنبوة مأجورون من الله عز وجل، فأنتم المحسودون، أي: حسد الغبطة التي ينبغي إذا فهمها أهل الإيمان أن يتنافسوا فيها، وأن يتسابقوا إليها، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل الله آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها).
سادساً: أنتم المورِّثون، فكما كنتم وارثين فأنتم تورِثون، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخصيصة عظيمة لأهل العلم، يظن بعض الناس أنها جزئية لهم، وذكر بعض العلماء أنها كلية في حديثه عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
ونصيب أهل العلم من هذا الحديث هو قوله: (أو علم ينتفع به) لكن ذكر بعض أهل العلم أن العلم من المعلمين لا يُقصد به هذا الجزء فقط، وإنما الأجزاء الثلاثة كلها، فإن التعليم في حد ذاته صدقة؛ لأن فعل الخير أياً كان صدقة، قال ذلك ابن جماعة في كتابه عن التعليم، قال: وشاهد ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء الرجل بعد انقطاع الصلاة قال: (من يتصدق على هذا؟).
ففعل الخير في حد ذاته صدقة، فتعليمك للرجل صدقة منك عليه، ثم علم ينتفع به وهو ظاهر، أو ولد صالح يدعو له، وما أكثر ما يكون الطلبة أكثر دعاءً من الأبناء لآبائهم، فبذلك يكون المعلم ممتداً أجره وفضله وخيره لهذه الصورة الشاملة التي ذكرها بعض العلماء.
سابعاً: أنتم الأولون، فكل أحد ليست له بداية إلا بالتعليم، بل إن الله عز وجل قد أشار إلى ذلك في قوله سبحانه وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:١٩]، ففي هذه الآية دلالة على أن العلم هو الطريق إلى الإيمان، وعقد الإمام البخاري فصلاً في كتاب العلم في صحيحه فقال: (باب العلم قبل القول والعمل).
فإذاً: العلم هو الأول في الاعتقاد، والأول في القول، والأول في العمل، والأول في واقع الحياة، فانظر إلى الوزراء والمدراء والأطباء والمهندسين والفقهاء، فستجد أنهم كلهم كانوا يوماً من الأيام تلاميذاً، مروا عليك -أيها المعلم- في فترة من الزمن، وتلقوا على يديك بعضاً من العلم، ولو أنك علمتهم القراءة والكتابة، فيظن بعض الناس أن معلم الابتدائية هذا في أدنى المراتب وفي أحقرها، لكنك يوماً ستجد عظيماً من العظماء أو عالماً من العلماء سيذكر الذي علمه الألف والباء، والذي علمه الكتابة، وكيف أنه كان يخطئ فيها ومعلمه يعلمه إياها، وكيف أنه عاقبه على عدم إجادته فيها في أول أمره، فهذه المفاتيح كلها وهذه المراتب كلها وهذه المناصب كلها إنما أنت بادئها، وأنت مفتتحها، وأنت الأول فيها.
ثامناً: أنتم المجاهدون، وهذا ذكره العلماء، وهو مما يدل على فقههم وعميق علمهم، ذكره الخطيب البغدادي في كتابه: (الفقيه والمتفقه) عندما ذكر أن سبيل الله عز وجل يشمل التعليم والجهاد، وقال ما ملخصه: إن الجهاد حماية لبيضة الإسلام بالدفاع عن المسلمين، وإن التعليم حماية للمسلمين بالحفاظ على الدين.
وابن القيم رحمة الله عليه له في هذا المعنى عبارة ضافية، فعندما أشار إلى أن العلم هو نوع من الجهاد في سبيل الله قال رحمه الله: إنما جعل طلب العلم من سبيل الله عز وجل لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد.
فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان -وهذا المشارك فيه كثير- والثاني: الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظمة منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه.
ثم استدل بقول الله عز وجل في سورة الفرقان المكية: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:٥١ - ٥٢] فهذه الآيات نزلت والجهاد لم يشرع بعد، فالمراد به جهادهم بالقرآن والبيان والحجة الداحضة التي تبين الحق وتقيم الدليل عليه.
وعندما يقول قائل: لمَ يطلقُ مثل هذا القول في كلامه رحمة الله عليه عندما قال: هو أفضل الجهادين؟ فنقول: إن الجهاد المعروف إنما تعرف فضيلته وتعرف أحكامه وتعرف أهدافه وغاياته من خلال العلم، فالعلم هو السابق على الجهاد، وهو الممهد له، وهو المهيج عليه، وهو المبين لغاياته وأهدافه، وبالتالي هو الذي ينشئه في النفوس إنشاءً، ويبينه في العقول بيانا ًواضحاً شافياً، ولذلك هذا أيضاً معنىً من المعاني.
تاسعاً: أنتم المدافعون عن الأمة في أخلاقها، وفي تفكيرها، وفي حضارتها، وفي تقدمها، فإن المعلم كأنما هو أعظم جهاداً من المجاهد في واقع الأمر؛ لأنه يجاهد الجهالة بالتعليم، ويجاهد الحماقة بالتقويم، ويجاهد الشطط بالاعتدال، ويجاهد الخمول والكسل بالتوجيه إلى الجد والعمل، ويواجه أموراً كثيرة، ثم هذا كله يجاهد به في نفوس متغيره، وأفكار متبدلة، وعواطف متأججة، فعمله صعب شديد، وأثره عندما يتحقق -بإذن الله عز وجل- يكون قوياً وعظيماً، ولذلك عندما يريد أعداء الأمة أو تريد جهة ما من الجهات أن تؤثر في مجتمع أو في أمة فإن أوكد اهتمامها وأولى أولوياتها أن تتوجه إلى التعليم، فتغير المناهج -وهذه خطوة- وتصوغ المعلمين -وهذه خطوة أخرى- وإذا عملت في هذين الجانبين استطاعت أن تدمر كل المقومات، واستطاعت أن تزعزع العقائد في النفوس، واستطاعت أن تحرف السلوك، واستطاعت أن تغير طرائق التفكير، واستطاعت أن تجعل هناك الهزيمة النفسية إلى آخر ذلك مما يعلن في قضايا الغزو الفكري ونحوه، فالمعلم أو المعلمون هم المدافعون عن هذه الأمة عندما يقومون بواجبهم ورسالتهم على النحو المطلوب.
عاشراًً: أنتم المصلحون لما يفسده الآخرون، فقد يفسد الطالبَ أهلُهُ، وقد يفسده مجتمعه، وقد يفسده أحياناً ما يسمعه أو ما يراه أو ما يقرؤه، ومهمتك أنه كلما حصل عطل وحصل خراب أن تصلح، وهذا في حق المعلم مهم جداً ومتحقق فعلاً؛ لأن المعلم أثره مستمر؛ لأنه يبقى مع الطالب وقتاً طويلاً وسنوات عديدة، ومن خلال مواقف متكررة، ومن خلال تدريس وتعليم ونشاط وغير ذلك، بينما المخربون الآخرون أحياناً يكون دورهم مقصوراً، إما مقصوراً بالوسائل، وإما مقصوراً في الوقت والزمن، فيبقى عامل الإصلاح في المعلمين أغلب وأنجح وأكثر تأثيراً واستمرارية من غيره إذا هم أتقنوه وأحسنوه، كما يقول بشير الإبراهيمي الذي كان رئيساً لجمعية العلماء في الجزائر في أوائل القرن التاسع عشر، يقول للمعلمين: أنتم معاقد الأمل في إصلاح هذه الأمة؛ فإن الوطن لا يعلق رجاءه على الأميين الذين يريدون أن يصلحوا فيفسدون، ولا على هذا الغثاء من الشباب الجاهل المتسكع الذي يعيش بلا علم ولا عقل ولا تفكير، والذي يغط في النوم ما يغط، فإذا أفاق على صيحة تمسك بصداها وكررها كما يكرر الببغاء.
فنحن نرى أن المعلمين هم المصلحون وهم المقومون، فإذا كنت -أخي المعلم- مرفوعاً عند الله، مندوباً عن الأمة، ووارث