إذاً: لو تأملنا ذلك لوجدنا أننا في حاجة إلى أن نفر إلى الله؛ لأنه عندما دعانا لكسب الدنيا قال:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}[الملك:١٥] مشي بقدر وقت نكتسب فيه العيش، قال:{وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}[الملك:١٥]، لكنه عندما دعانا إلى الآخرة، عندما حثنا إلى طريق الجنة لم يقل ذلك جل وعلا، بل قال:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:١٣٣]{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[الحديد:٢١]{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}[البقرة:١٤٨]{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ}[المطففين:٢٦]{وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}[فاطر:٣٢] إنه ميدان سباق ليس فيه مشي ولا سعي ولا جري، بل هو أعظم من ذلك.
ثم لما بين الحق جل وعلا لنا الأمر إذا ضاقت المشارب وأظلمت الدنيا، وإذا وجد المرء نفسه كما هو حاله في كل آن ضعيفاً يحتاج إلى مدد من القوة، عاجزاً يحتاج إلى مدد من القدرة، فقيراً يحتاج إلى عطاء من عطاء ذي الجود والكرم سبحانه وتعالى، جاء الخطاب بقوله:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}[الذاريات:٥٠] إنه أمر عظيم، إنه خوف يدفعك إلى الفرار، إنها نار تدفعك إلى الفرار، إنه مصير يدفعك إلى الفرار، فإلى أين المفر؟ وأين المهرب؟ وكيف النجاه؟ وأين طريقها؟ إنه لا ملجأ من الله إلا إليه، لا بد أن تقر هذه الحقائق في قلوبنا في نفوسنا أن ندرك أنه لا بد لنا من الله، وأن نكون بالله ومع الله ولله وفي الله، تكون حياتنا كلها كما قال الحق عز وجل:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام:١٦٢ - ١٦٣] هل أنفاسك، هل أوقاتك، هل أموالك، هل أزواجك، هل أولادك؛ كلها لله أم أن حظ النفس قد غلب؟ وأبواب الرحمة في هذا الشهر، وأبواب الجنان مفتحة، وأبواب النيران مغلقة، والشياطين مصفدة، والغفلة مع ذلك مستحكمة، والتكاسل عن الإقبال إلى الطاعات سمة ظاهرة، متى يفيق النائمون؟ متى يستيقظ الغافلون؟ متى ينشط المتكاسلون؟ متى يقبل المعرضون؟ متى الرجوع إن لم يكن في مثل هذه الأيام، في مثل هذه الخمس الباقيات من شهر البر والإحسان، شهر الذكر والقرآن، شهر المسارعة إلى الجنان، شهر جعل الله له باباً مخصصاً في الجنان وهو باب الريان، إذا لم يكن الرجوع هذه الأيام فمتى نفعل ذلك؟ إن المرء ليعجب من نفسه، وإن الإنسان ليفكر في حاله، لا شك أن هذه الحال قد سرى إلى قلوبنا فيها موات إلا ما رحم الله، وإلى نفوسنا كدر وظلمة إلا ما رحم الله، فعلينا أن ننعى أنفسنا، أن نتذكر ولو على أقل تقدير في هذه الأيام الباقيات، فروا إلى الله فروا إلى التوبة من ذنوبكم فروا منه إليه واعملوا بطاعته فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن فروا مما سوى الله إلى الله.
والفرار إليه فرار من كل ما يكرهه ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً من الجهل إلى العلم من الكفر إلى التوحيد من المعصية إلى الطاعة من الغفلة إلى الذكر، كل شيء يحتاج في حياتنا إلى تبدل، نحتاج أن نشعر أن وراءنا ما يلحقنا، ويوشك أن يدركنا، أرأيتم إذا خاف الوليد الصغير ماذا يصنع؟ إنه يفر سريعاً إلى أمه فإذا وصل إلى حضنها اطمأن أفضى بهمه رفع صوته بالبكاء وجد الصدر الحنون، وجد اليد الحانية، ولله المثل الأعلى، وسعت رحمته كل شيء، وقال:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}[طه:٨٢] والله سبحانه وتعالى كما بين رسوله صلى الله عليه وسلم قد سبقت رحمته غضبه.