[العبادة مأمور بها في كل العام]
وهذه رسالة أخرى بعث بها الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز، رسالة من إمام عالم إلى حاكم عادل، فانظروا ماذا كانت الأقوال فيها، وفي أي شيء كانت الوصايا، كتب له فكان مما كتب، أما بعد: فإنه من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر.
وقبل أن أمضي في الحديث أقول: تذكروا هذا القول كله بعيداً عن هذا الشهر العظيم، وخارجاً عن إطار هذه الفريضة الجليلة، فإن الحياة أوسع من رمضان، وإن العام أطول منه، وهو في أحد عشر ضعفاً من أضعافه.
يقول الحسن البصري: أما بعد: فإن من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر في العواقب نجا، ومن أطاع فهو أفضل، ومن حلم غنم، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم، فإن زللت فارجع، وإذا ندمت فأقلع، وإذا جهلت فسل، وإذا غضبت فأمسك، واعلم أن أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفس.
ودخل رجل على الجنيد وهو يصلي وقد أطال صلاته وأطالها والرجل ينتظره، فلما قضى صلاته قال للجنيد: قد كبر سنك، ووهن عظمك، ورق جلدك، وضعفت قوتك، فلو اختصرت! فقال: اسكت! طريق عرفنا به ربنا لا ينبغي لنا أن نقتصر منه على بعضه.
فطريق معرفة الله ليس في رمضان، وموسم طاعته ليس مقتصراً على ثلاثين يوماً في العام، فطريق عرفنا فيه مرضاة الله عز وجل، وطريق عرفنا به ربنا لا ينبغي أن نقتصر منه على بعضه.
قال الجنيد: ومن ترك طريق القرب يوشك أن يسلك به طريق البعد.
وقوله: ومن ترك طريق القرب، أي: من الطاعات، بأن يترك المواظبة عليها في سائر الأيام والساعات.
وبعد هذه الخواطر الإيمانية، والمواقف الروحية، والتذكرات العلمية، ترى هل نحن الآن نفكر في حياتنا تفكيراً صحيحاً في الأرباح والخسائر؟! تعالوا أنتقل بكم إلى هذا الموسم العظيم الذي نحن فيه، لتروا أموراً ليست مقتصرة عليه، ولا خاصة به، ولذا اخترت ألا أتحدث عن شيء من فضائل الشهر ولا فريضة الصوم، فقد سمعنا وقلنا قبل ذلك وبعده كثيراً فيه، لكنني هنا أحب أن أشير إلى أمور نعرف كثيراً منها، ولكننا في واقع الأمر لا نحرص عليها، ولا نتشبث بها، ولا نستشعر أهميتها، ولا نتذوق لذتها، ولا نتواصى ولا نتعاهد عليها، ولا ينالنا منها حظ أوفر، ولا نصيب أكبر، وهي في هذا الشهر العظيم.
فأول ذلك وأعظمه وأوكده الصلاة، ونحن جميعاً نرى أن هذه المساجد تمتلئ بالمصلين، وخاصة في الوقت الذي لا يحتمل فيه العذر، وأن الناس كلهم فيه في بيوتهم، فإما أنهم شهدوا الفجر والصلاة فملئوا المساجد، وإما أنهم ناموا وتخلفوا، فانظر الفجر اليوم، وانظر المساجد وهي تشكو إلى الله قلة روادها، والساعين إليها، والمصلين فيها، والمشائين في الظلم إليها، في غير هذا الشهر الكريم! جاء من حديث أبي هريرة عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الرجل تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه بخمس وعشرين درجة؛ وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في صلاته: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه) متفق عليه.
وهذا الحديث ليس مختصاً برمضان، وهذه الأرباح التي نجنيها اليوم بحمد الله عز وجل وفضله، ونفرح بها ونسعد، ألا نفكر كم خسرنا منها في غير رمضان! عندما لا تتحرك الأقدام إلى المساجد، عندما لا تصطف الأجساد في هذه الصفوف!