للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضوابط الجرح والتعديل]

يقول القرافي أيضاً في التفريق بين الأمور المباحة والمحرمة في كتاب الفروق، وهو كتاب محتو على مباحث نفيسة: الأمر الأول: التجريح والتعديل في الشهود عند الحاكم إنما يجوز عند توقع الحكم بقول مجرح ولو في مستقبل الزمان، أما عند غير الحاكم فيحرم؛ لعدم الحاجة إلى ذلك، يعني: إذا جئت للحاكم أو القاضي لتشهد لأن شهادتك لها أثر في الحكم، فلك أن تشهد، وأما إن لم يكن لها أثر فلا، فإذا لم يكن ثمة قضية ولا حكم فليس من داع لأن تذكر هذا الأمر، قال: وكذلك رواة الحديث يجوز وضع الكتب في جرح المجروح منهم، والإخبار بذلك لطلبة العلم الحاملين لذلك لمن ينتفع به، وهذا الباب أوسع من أمر الشهود؛ لأنه لا يختص بالحكم أو بالحكام، بل يجوز وضع ذلك لمن يضبطه وينقله، يعني: هذه قضية عامة، فيها مصلحة دينية، فتذكر العيوب والجرح؛ لما يترتب عليه من النفع، قال: يجوز وضع ذلك لمن يضبطه وينقله وإن لم تعلم عين الناقل؛ لأنه يجري مجرى ضبط السنة والأحاديث، وطالب ذلك غير متعين، يعني: لا نعلم من الذي يحتاجه، فتبينها لكل أحد يأتي ليأخذ الحديث، فينتفع بها ليعلم الصحيح من الضعيف، ويشترط في هذين القسمين أيضاً: أن تكون النية خالصة لله سبحانه وتعالى في نصيحة المسلمين عند حكامهم في ضبط شرائطهم، أما إذا كانت لعداوة، أو تفكه بالأعراض، أو جريان مع الهوى فذلك حرام، وإن حصلت به المصالح عند الحكام والرواة، يعني: قد تحصل به المصلحة، لكن هو في ذاته قد يأثم إن لم يكن في نفسه هذا الأمر؛ لأنه قال: فإن المعصية قد تجر للمصلحة، وضرب مثالاً قال: كما يقتل الرجل كافراً ويظنه مسلماً، فإنه عاص بظنه؛ لأنه قصد قتل المسلم في نيته، وإن حصلت المصلحة بقتل الكافر، فالمعول عليه عند الله هو ما يستقر في النية، فأنت قد تجرح المجروح بشيء ينتفع به الآخرون، ولكنك إن لم تكن جرحته لذات الله سبحانه وتعالى، وللنصح الخالص دون هوى فإنه يقع عليك الإثم.

الأمر الثاني: قال: اشترط أن يكون هذا في الاقتصار على القوادح المخلة بالشهادة أو الرواية، إن كنت في أمر الشهادة فتذكر ما يقدح في شهادة الشاهد، وإن كنت في أمر الرواية فتذكر ما يقدح في روايته، أما ما وراء ذلك من أمور خاصة أو من أمور لا تعلق لها بهذا فلا يجوز، فلا يقول مثلاً: هو ابن زنا، ولا أبوه زان، ولا غير ذلك من الأمور التي لا تتعلق بالشهادة ولا بالرواية.

إذاً: لاحظ هذه الملامح الأولية لمسألة الجرح أو التقويم أو الكلام عن الناس، فهي مسألة دقيقة، وهي -كما قال القرافي:- كأكل الميتة، الميتة لا تؤكل إلا عند الاضطرار، وكذلك لا يخاض في هذا الأمر إلا عند الاضطرار، عند شدة الاحتياج وترتب المنفعة، الميتة إذا اضطر إليها إنسان هل يصنع منها وليمة يأكل منها ويطعم؟! لا، وإنما يأكل منها بقدر ما يرد به عن نفسه الهلكة، فإن غلب على ظنه أنه بما أكل منها قد اندفع الضرر عنه لا يحل له أن يزيد على ذلك، فهي مقدرة بقدر محدد، فكذلك هذه الحاجة والمصلحة إن وجدت فإنما يؤخذ منها بالقدر الذي يحقق المصلحة ولا زيادة، كما هو في شأن الميتة، ولذلك يقول الإسنوي: يعتبر الجرح أمراً صعباً، فإن فيه حقاً الله مع حق الآدمي، أنت تريد الإخلاص لله، والنصح لله، وكذلك هناك حق لهذا الإنسان، فإذا أخطأت في حق الله سبحانه وتعالى عنك يعفى، ولكن حق الآخرين إذا تشبثوا به فلا بد أن يؤخذ منك، قال: وربما يورث مع قطع النظر عن الضرر في الآخرة ضرراً في الدنيا، من المنافرة والمقت بين الناس، وإنما جوز للضرورة الشرعية، وحكموا بأنه لا يجوز الجرح بما فوق الحاجة، ولا الاكتفاء بذكر الجرح فقط فيمن وجد فيه الجرح والتعديل كلاهما، يعني: ينبغي ألا يقتصر على ذكر المعايب أو المثالب أو وجوه الجرح، ويترك جانب التعديل وذكر المناقب والفضائل، بل إن كان قاصداً للنصح فليذكر كلا الأمرين، فإن كان من أهل العلم فله أن يجرح، وقد يخالفه غيره، وإن لم يكن كذلك فليبسط المسألة ليكون للناظر موضع تأمل وفرصة للتقويم والميزان، فلا يقع في ذكره جزء من الجزأين دون الآخر، حتى لا يزكي من لا تكون له تزكية أو يخطئ من لا تكون له تخطئة.

العلماء أصلاً ما لجئوا إلى هذه المسألة إلا عن حاجة وضرورة ملحة، فما هو السبب الذي حملهم على أن يكتبوا في الجرح والتعديل، وأن يصنفوا في المآخذ على الناس؟ قال: وإنما ألزموا -العلماء- أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث، وناقلي الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا؛ لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل وتحريم، أو أمر ونهي، وترغيب وترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته؛ كان آثماً بفعله، غاشاً لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع، أي: أنهم اضطروا لذلك لأن هذه المسائل يترتب عليها دين وحل وحرمة، ولكن وضعوا في ذلك القواعد مثل: لا جرح فوق الحاجة، ولا بد أن يكون الجرح بدافع ملح، وحاجة ماسة.

الأمر الثالث: لا جرح إلا لمن يحتاج إلى جرحه لترتب أمر على جرحه، فلذلك قالوا: لا جرح إلا للرواة وأما غيرهم فلا، ولذلك ابن دقيق العيد تعقيب على ابن السمعاني في ذكره بعض الشعراء وقدحه فيهم فقال: إذا لم يضطر إلى القدح فيه للرواية لم يزده، لماذا تقدح فيه؟ هل هو صاحب رواية؟ هل هو ممن نقل الأحاديث فنحتاج إلى أن نعرف حاله؟ لا، فإذاً: لا نجرحه بذكر حاله ما لم يترتب عليه أمر يحتاج جرحه وقال الذهبي في الميزان ناقداً ابن الجوزي: قد أورده أيضاً العلامة ابن الجوزي في الضعفاء، ولم يذكر فيه أقوال من وثقه، وهذا من عيوب كتابه، يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق! الأمر الرابع: لا بد أن يذكر الجرح والتوثيق، قال الذهبي في ترجمة ابن المبارك: من غلبت حسناته فينبغي ألا تذكر سيئاته، ومن غلبت سيئاته فينبغي ألا تذكر حسناته، وكلا الأمرين لحكمة بالغة؛ لأن من غلبت حسناته إذا سلط الضوء على سيئاته ربما كان ذلك صارفاً للناس عن الانتفاع بتلك الحسنات، ومن لم يكن له حسنات ولا فضائل وإنما غلب عليه الفساد أو الخلل وله النادرة من الحسنات، والقليل من الأقوال الصائبات، فإذا أشيعت وأعلنت وشهرت فإنها ربما تكون مزكية له عند من لا يعلم حاله، ثم يتبعه ويقتدي به وهو على خلل أو خطأ كبير فهذه من القواعد المهمات.

الأمر الخامس: أنه لا يصح الخروج والانتقال عن دائرة الجرح، بمعنى نحن في قضية معينة فلا نخرج إلى غيرها، فلذلك قال صاحب الرفع والتكميل: من عاداتهم السيئة أنهم كلما ألفوا سفراً في تراجم الفضلاء ملئوه بما يستنكف عنه النبلاء، فذكروا فيه المعايب والمثالب كما في ترجمة من هو عندهم من المجروحين المقبوحين، وإن كان جامعاً للمفاخر والمناقب، وهذا من أعظم المسائل، تفسد به ظنون العوام، وتسري به الأوهام في الأعلام.

الأمر السادس: أنه ينبغي أن يكون الجرح في موطن الخصومة فقط ولا نزيد عليه، ولذلك ذكر بعضهم عادات بعض المخطئين فقال: من عاداتهم الخبيثة أنهم كلما ناظروا أحداً من الأفاضل في مسألة من المسائل توجهوا إلى جرحه بأفعاله الذاتية، نحن في مسألة علمية فما لنا ولذكر عقله أو تعامله مع أبنائه أو بيعه وشرائه؟! قال: وبحثوا عن أعمال عرضية، وخلطوا ألف كذبات بصدق واحد، وفتحوا لسان الطعن عليه بحيث يتعجب منه كل شخص، وغرضهم منه إسكات مخاصمهم بالسب والشتم، والنجاة من تعقل مقابلهم بالتعدي والظلم، بجعل المناظرة مشاتمة، والمباحثة مخاصمة، وهذا من أقبح العادات التي ينبغي التنبه عليها عند التعرض لمسألة التقويم، أو ذكر المحاسن والمثالب، فربما نجد أن بعض المتأخرين في مسألة علمية يطعن في ذات الشخص الذي خالفه أو في هيئته أو كذا ولو كان مصيباً فيه فهذا مما ينبغي ألا يخوض فيه؛ لأنه يتحدث عن مسألة فيها نصح للمسلمين.