للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لا يقتصر الإيمان على القول باللسان ولا العمل ولا التصديق]

ونبدأ بأمر الفهم وهو المقدم في هذا المقام، ونتساءل سؤالاً بدهياً ربما يتبادر إلى أذهان كثير منا أنه من الوضوح بمكان، بحيث لا يسأل عن مثله، ولكن ما سأذكره من خلال الآيات القرآنية يجعل لهذا السؤال بعداً أعظم وأوسع مما قد يخطر ببال بعضنا: ما هو الإيمان؟ هل الإيمان مجرد القول الذي ينطق به اللسان؟ وهل هو دعوى يمكن لكل أحد أن يدعيها؟ إذاً: كما قيل: (لو كانت الأمور بالدعاوى لقال من شاء ما شاء) إن الإيمان ليس مجرد القول، بل قد أثبت الله عز وجل النطق بالإيمان مع نفي حقيقته، فقال سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨] أولئك قوم نطقوا بألسنتهم، ورفعوا بالإيمان رايتهم، وصدعوا به في كل مجلس، ونطقوا به في كل محفل، ومع ذلك قال الله عز وجل: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨] فنفى عنهم حقيقة الإيمان مع أنهم أظهروها ونطقوا بها باللسان؛ فإذاً: ليس الإيمان مجرد القول، فهل الإيمان هو العمل والالتزام بالمقتضيات والقيام بأداء الصلاة والزكاة، وسائر الأركان؟ لو كان الأمر كذلك لكان بعض أهل النفاق أحظى بوصف الإيمان، وأحظى بالرتب العليا فيه من كثير من الناس، إذ المنافقون يظهرون من الأعمال والمنافسة في الخيرات ما قد يظهر به عند كثير من الناس أنهم قد بلغوا الرتب العليا من الإيمان.

ونأتي مرة أخرى إلى الآيات القرآنية فنجدها تصف أقواماً قاموا بالأعمال الإيمانية، ولكن نفى الله عز وجل عنهم الإيمان، فجاء في وصف أهل النفاق: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:١٤٢]، وفي سورة التوبة: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:٥٤] أولئك قوم جاءوا بالشعائر الإيمانية الواضحة البارزة، فالصلاة قد أطلق عليها في القرآن مسمى الإيمان كما قال جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:١٤٣]، لكنهم قوم نفى الله عنهم الإيمان، بل قد قال جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:١٤٥].

فإذا لم يكن الإيمان هو مجرد القول، ولا مجرد العمل، فهل الإيمان هو حقيقة التصديق والإدراك والعلم والمعرفة؟ والجواب القرآني ينفي ذلك أيضاً، فالله سبحانه وتعالى يقول في حال الكافرين: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤] جحدوا بها: أي أنكروها بعد أن عرفوها، واستيقنتها أنفسهم: أي بلغت معرفتهم بها درجة أعظم من درجة العلم، وهي درجة اليقين الذي يعرف به كل الأمور المتعلقة بهذه الحقيقة، فقد عرفوا الحق وأيقنوا بدلالة الإيمان ومع ذلك ما آمنوا، بل صرفهم الظلم والعلو عن ذلك.

ويبين الله سبحانه وتعالى أيضاً هذه الحقيقة في قوله جل وعلا: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣] فهم لا يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان كفار قريش يسمونه الصادق الأمين فقد رأوا من الأدلة البرهانية والمعجزات النبوية ما كان حجة واضحة داحضة لكل شك، فقد انفلق القمر فلقتين حتى كان فوق كل جبل منهما فلقة، ورأوا ذلك عياناً، ثم أصبحوا بالرسول صلى الله عليه وسلم مكذبين، وبالله سبحانه وتعالى كافرين، نسأل الله تعالى السلامة.

وأبو جهل يمثل صورة من صور نفي الإيمان مع تحقق المعرفة، يقول: كنا وبنو هاشم نتنافس الشرف، فإذا كانت لهم السقاية كانت لنا الرفادة، وإذا كانت لهم كذا كان لنا كذا حتى إذا تساوينا وتجاثينا على الركب قالوا: منا نبي، فمن أين لنا بنبي؟ فوالله لا نصدقه الدهر كله.

إذاً: ليست القضية أنهم كان ينقصهم الدليل حتى يعرفوا الحق، كلا، فقد عرفوا الدليل، وأقيمت الحجة، وانقطع الشك، لكن القلوب المظلمة المعرضة لم تؤمن بالله سبحانه وتعالى.

وقال قوم مسيلمة الكذاب: (كاذب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر) أي: مادام هذا صاحبنا فنصدقه وإن كنا نعلم حقيقة كذبه، وذلك نكذبه وإن كنا نعلم حقيقة صدقه.