للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أحداث البوسنة عبرة وعظة]

الحمد لله، الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، وجاعل العاقبة للمتقين ولو بعد حين، نحمده سبحانه وتعالى جعل الدائرة على الكافرين، وجعل سوء العاقبة للظالمين، نحمده جل وعلا هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أما بعد: فأيها الإخوة المؤمنون! قد طلب مني بعض الأفاضل أن يكون حديث اليوم عن المآسي المروعة، والفضائع الشنيعة التي ما انقطعت في بلاد المسلمين، بل تضاعفت وتزايدت، وازداد أوارها، واشتعل لهيبها، وتصاعد دخانها في كثير من البلاد الإسلامية، وأراد أن يكون الحديث عن الهجمة الشرسة الفضيعة التي يلقاها إخواننا في شرقي البوسنة في مدينة (ورازده)، وما يلقاه إخواننا في أرض الإسراء مثوى العديد من الأنبياء من المعاناة والبلاء، ومن شدة الكرب والعناء، وكنت أقدم على ذلك وأحتم، ولسان حالي يقول: وماذا عسانا أن نقول في مثل هذه الأمور؟ وعن أي شيء نتحدث في هذه المآسي ولأي غرض نعيد هذا القول ونردده؟ هل نريد أن نكرر القول المسموع؟ أو نزيد من الصراخ والبكاء والعويل؟ ويثور السؤال الذي يدفع إلى التردد، لماذا نذكر هذه المقالات؟ وماذا عسانا أن نفعل تجاهها؟ وما دورنا في مواجهة المآسي ولسان حال كثير منا يقول: ليس باليد حيلة، وليس هناك مجال لأن نؤدي دوراً أو أن نقوم بمهمة؟ ولكن هذا التردد يزول؛ لأنه يكفينا من هذا الحديث أن نشارك إخواننا في مآسيهم، ولئن بكوا دماءً ودموعاً فلا أقل أن نذرف معهم ولو دمعةً واحدة، ولئن ملئوا الدنيا صراخاً وعويلاً فلا أقل أن نرفع من أعماق قلوبنا لله دعوةً خالصة، فحري بنا أيها الإخوة أن نزيد القول، وأن نكرره في هذه الأمور، عل ذلك أن يحيي موات القلوب، وأن يوقظ غفلة العقول، وأن يحرك ضعف العزائم والهمم، وأن يبعث في القلوب الأمل والثقة في الله عز وجل.

إننا لا نريد أن نجعل الحديث طعنات تغتال الأمل في النفوس، ولا أن نجعل المآسي تحيط بنا لتقعدنا عن العمل، كلا أيها الإخوة، فلقد مر بالمصطفى صلى الله عليه وسلم من هذا البلاء الكثير والكثير، ولقد مر بمن جاء بعده من كرام صحابته ومن أئمة هذه الأمة وسلفها ما مر من الأحداث المروعة، ومع ذلك نرى التاريخ ينطق بشواهده وحوادثه على المنهج الذي ينبغي أن نسلكه، وعلى الطريق الذي ينبغي أن نتواصى به.

لا شك أيها الإخوة أننا سمعنا كثيراً في الأيام القريبة الماضية عن الجرائم المروعة التي يحار العقل فيها ابتداءً، ولكنه يعرف تفاصيلها وخلفياتها انتهاءً؛ لأن الأمر لم يعد فيه خفاء، بل صار أوضح من الشمس في رابعة النهار، وانظر إلى هذه الأحداث في شرقي البوسنة على مدى أيام وشهور متواليات، وانظر إلى الأخبار الأخيرة التي ذكرت أن القصف توالى حتى صارت القذائف تنزل على المسلمين في تلك الديار بمعدل قذيفة واحدة في كل عشرين ثانية، فاحسب رعاك الله كم قذيفة في الدقيقة والساعة واليوم، لترى كيف تشتعل النار في ديار إخواننا، بل في أجسادهم، بل في أطفالهم وشيوخهم ونسائهم! وانظر رعاك الله إلى النار التي تلتهم الأخضر واليابس، وإلى الرصاص الذي يغتال الصغير والكبير، وإلى الشظايا التي تنطلق من الأرض، والمباني التي تتهدم على رءوس أهلها، وانظر إلى ذلك كله وهو يجري على سمع الزمان كله، وبمرأىً من الأبصار، ينقل إلى كل الدنيا عبر الأقمار الصناعية، والشاشات الفضائية مدعماً بالوثائق الشاهدة الناطقة، وبالتقارير الميدانية الساخنة، وكأن الدنيا كلها قد صمت آذانها، وعميت أبصارها، وماتت قلوبها، وانطفأت كل معاني الإنسانية والفطرة البشرية في نفوسها كأن الناس مسخوا وحوشاً، ليس لها بالبشرية ولا بالإنسانية سبب ولا نسب! وانظر إلى حال العالم وإلى حال القوى التي تسمى كبرى، وإلى المنظمات التي ترفع شعار الأمن والعدالة، فماذا تراها تفعل؟! إنها تشجب وتستنكر، ثم تنذر وتحذر، ثم تتصل وتجتمع، ثم تفكر وتخطط، ثم تريد أن تقرر، وبعد أن تقرر تفكر هل تفعل أو لا تفعل: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود حتى إذا لم يبق حجر على حجر، ولم يبق روح في جسد، ربما تحركت هذه القوى والمنظمات! لماذا؟ لتقوم بدفن الموتى، وتدمير ما بقي من الخرائب، وإطفاء الحرائق التي ظلت مشتعلة.

ولئن كان الأمر كذلك في البوسنة على فضاعته لم يمض عليه إلا هذه المدة اليسيرة مدة عامين، فانظر رعاك الله إلى فلسطين المسلمة التي ما تزال مأساتها تمتد عبر السنوات، فقد مضى عليها أكثر من نصف قرن أو نحو ذلك.

انظر إليها وفي كل يوم مزيد من القتلى وعديد من الجرحى، وارتفاع في أعداد اليتامى، وتزايد في أعداد الأرامل والثكالى، وما زالت الأحداث تنبئنا بالمزيد، والليالي تحمل في طياتها الكثير والكثير، وكل ذلك نراه ونسمعه، ومع ذلك نرى من يشجبه ويستنكره، فيعجب المرء أي أمر قد بلغ في ديار الإسلام والمسلمين؟ وإلى أي مدىً قد بلغت الخسة والدناءة واللؤم والجرم في هذا العالم المنكود، غربيه وشرقيه، العالم الكافر الذي اجتمع من كل حدب وصوب وعلى كل ملة ودين ليوجه سهامه، ويصوب قذائفه على المسلمين العزل المستضعفين، ثم بعد ذلك يرمون المسلمين بتهم الإرهاب والتطرف والإجرام والترويع للآمنين؟! عجباً لهذه المقاييس المنتكسة، ولهذه الأحوال المنعكسة! والمرء يفكر مرة أخرى، ويعيد

السؤال

ماذا عسانا أن نزيد عما سمعنا ورأينا، ونسمع ونرى في كل يوم وفي كل آن؟ وهل نريد أن نزيد الجراح جرحاً والصراخ صراخاً؟ إننا نريد أيها الإخوة أن نعرف من هذه المآسي كثيراً من الأمور التي تنفعنا، والتي تبصرنا، والتي تصفعنا لنستيقظ من نومنا، وتدفعنا لنتحرك من عجزنا.

إننا أيها الإخوة نتربى بأقدار الله عز وجل، فإن الأقدار الربانية تساق للمسلمين حتى يتعظوا ويعتبروا، فإنه ليس شيء في هذا الكون يجري عبثاً، وليس قدر من أقدار الله إلا وله حكمة بالغة يعلمها من يعلمها ويجهلها من يجهلها، فالدماء التي تسيل، والأرواح التي تزهق، والبيوت التي تحرق، والمساجد التي تهدم، كل ذلك يجري بقدر الله عز وجل لحكمة بالغة، فانظر رعاك الله إلى ما ينبغي أن تقرأ من وراء سطور هذه الأحداث، ولننظر ما الذي ينبغي أن نخرج به، وأن نعرفه وأن نستيقنه، وأن نتداوله فيما بيننا، وأن نشيعه في مجالسنا؛ حتى ننتفع ونستفيد، وحتى نتحرك ونمضي، ونبذل ونعمل، فقد كثر منا القول والكسل، وكثر منا المراء والجدل، وقل في صفوفنا التحرك نحو العمل.