[الثقة بنصر الله عز وجل]
الأمر الأخير الذي نختم به والذي نحتاج إلى أن نتدبر فيه ينقسم إلى قسمين، وكلاهما متعلق بعقيدة المؤمن ويقينه: الأول منهما: الثقة بنصر الله عز وجل، واليقين بتحقيق وعده، قال الله عز وجل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:٧]، وقال جل وعلا: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:١٢٨]، وقال سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨٣] كل هذه الوعود صادقة لا تتخلف، إنما الذي يتخلف فعل المسلمين، فلا تأتيهم حينئذ تلك الوعود؛ لأنهم لم يأتوا بالشروط.
ولقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في مكة عشرة أعوام، وظل بعد ذلك يجاهد ويكابد المشاق أعواماً أخرى، وخرج من مكة مهاجراً ومطارداً، وخرج لا يملك شيئاً من الدنيا، وكل المؤشرات المادية كانت في غير صالح المسلمين.
ولو قسنا ذلك بالزمن لرأينا أنه عليه الصلاة والسلام خرج من مكة مهاجراً طريداً وعاد إليها فاتحاً عزيزاً بعد ثمانية أعوام، فما هي في عمر الزمان؟ إنها مدة قصيرة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك مالاً ولا يملك سلاحاً، والمسلمون في ذلك الوقت قلة لا يؤبه لها، والأجواء المحيطة بهم والقبائل التي من حولهم كلها على الكفر والشرك.
ثم لم يكن النصر في هذا العنصر المادي بقوة المسلمين أو كثرة جيوشهم، بل ما فتحوا مكة إلا بعد أن فتحوا قلوباً كثيرة وعقولاً كثيرة، ودخل في الإسلام من القبائل ومن الناس أعدادٌ هائلة عظيمة، وبعد العام الثامن في العام العاشر عندما حج النبي عليه والسلام حجة الوداع كان معه ما يزيد على مائة ألف نفس من أصحابه الذين حجوا معه.
لقد فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم القلوب والعقول قبل أن يفتح البلاد والدور والحصون، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:١ - ٣].
فنحن -إذاً- لابد من أن نعظم اليقين بنصر الله عز وجل، خاصة في هذه الظروف، فبعض الناس اليوم يقول: كيف سينتصر المسلمون؟! أمريكا الدولة العظمى في العالم والأمم المتحدة ضدهم، والأسلحة عابرة القارات! كأن بعض الناس نسوا أن هناك قرآناً يتلى، ونسوا أن هناك سنناً، ونسوا أن هناك قوة عظمى وهي قوة الله عز وجل القائل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤].
وفي يوم الأحزاب اجتمع على المسلمين شدة الجوع وشدة الخوف وشدة البرد، وجيش المشركين يحيط بهم من كل جانب، وقريظة نقضت العهد، وأصبح المسلمون محاطين من كل جانب، وليست عندهم حيلة ولا قوة، فما الذي جرى؟ يقين بنصر الله، فكبر النبي عليه الصلاة والسلام وبشر أصحابه بالنصر، ثم جاءت الريح فأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وقلعت الخيام، وطردت أولئك الكفرة والمعتدين {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:٢٥]، وبعدها قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اليوم نغزوهم ولا يغزونا)، فلم يكن النبي عليه الصلاة والسلام عندما خرج من مكة وهو مهاجر طريد عنده أدنى شك في أنه سينصر بإذن الله، وأن كلمته ستعلو، وأن دينه سينتشر، وأن رايته ستخفق، وأن دولته ستعم بقاع الأرض كلها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وإن ديني سيبلغ ما زوي لي منها).
فنحن اليوم في حاجة إلى أن نزيل هذا الوهن الذي سرى إلى النفوس، واليأس الذي تسلل إلى القلوب، واستعظام قوة الخلق ونسيان قوة الخالق، ونقول للذين أصبحوا اليوم يفتون في العضد ويقولون لنا: كونوا واقعيين، فماذا تريدون أن تفعلوا؟ وماذا يفعل هؤلاء الفلسطينيون في فلسطين؟ إنهم يزهقون أرواحهم، ويسفكون دماءهم، ويخربون بيوتهم بأيديهم، ثم لم ينجزوا شيئاً.
نقول: سبحان الله! ننسى قوة الله عز وجل، وننسى قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:٢٤٩]، وننسى كيف نصر الله رسوله في يوم بدر، وكيف نصر المسلمين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام! بل إلى قريب من عهدنا هذا في حرب رمضان التي انتصر فيها المسلمون على اليهود في أول هذه المعارك.
فلماذا نغفل عن ذلك كله؟! درس الفتح يعلمنا أن الدائرة تدور وأن الأيام تتوالى، وأن الأعوام تكر، وأن العاقبة للمتقين، وأن النصر للمؤمنين ولو بعد حين.