[تخوف أعداء الله عز وجل من تطبيق الشريعة الإسلامية]
الجانب الثاني: جانب الشريعة وتطبيقها، وهو جانب له ملامسة إلى حد ما بالجانب الأول، لكن الجانب الأول هو أعم.
يدّعي المنافقون أنه لا صلة مطلقاً للإسلام بالسياسة في أي جانب من الجوانب، وهذا الجانب الثاني هو نوع من التخصيص إلى أعلى المطالب، أو إلى أعلى الصور التي يمثلها تفاعل الإسلام مع السياسة، وهو أن ترقى إلى أن تطبق شريعة الله سبحانه وتعالى، وأن تحكم أوضاع هذه الحياة.
ومن العجيب أننا نجد أن هؤلاء القوم يخلطون في ذلك خلطاً عجيباً! ومن ذلك: أن خلف الله يقول: إن القرآن الكريم كان يلفت ذهن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس على الناس بوكيل أو مسيطر أو جبار أو ما إلى ذلك من كل ما هو من شئون الحكم والرئاسة، وعلى أساس من هذا كان القرآن الكريم يطلب إليه أن يترك أمر عقاب الناس على مخالفتهم لتعاليم الله إلى الله نفسه! وطبعاً تجد أمثال هؤلاء ينصبون أنفسهم مفسرين للقرآن، وشارحين للسنة، بل حتى متكلمين على صحة الأحاديث وضعفها!! فأحدهم يستشهد لإبطال الجهاد بالحديث الضعيف: (جئنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)، ثم حينما يأتي إلى بعض الأحاديث الآمرة بالجهاد يقول: وهذا الحديث ليس من الأحاديث الصحيحة التي يعتمد عليها! وهذا نوع من الافتراء والتجرؤ في هذا الجانب.
نجد محمد عمارة يقول: إن أحداً لن يستطيع الزعم بأن الشريعة يمكن أن تثبت عند ما قرره نبي العصر! يعني: أن الشريعة التي كانت على عهد محمد صلى الله عليه وسلم من المستحيل أن يزعم أحد أنها تثبت إلى هذا العصر، ويمكن أن تطبق في هذا الزمن.
ويقول أحمد كمال أبو مجد: ويسرف البعض في تصوير تميز الإسلام عقيدة وشريعة عن كل ما عداه، ويتصور لذلك أن تطبيق الشريعة يعني أولاً سقوط كل التشريعات الوضعية المطبقة في بلاد المسلمين، وإقامة نظام جديد تماماً على أسس اعتقادية وأخلاقية جديدة، وهذا وهم.
وهو لا يقول: إنه ليس هناك صلة بين الإسلام وتطبيق الشريعة أو بين تطبيق الشريعة وواقع الحياة، لكن يصوغها بصورة تفرغها من محتواها فيقول: إن دين الإسلام بصفة خاصة يمتد اختصاصه إلى جميع جوانب الحياة الفردية والجماعية للمؤمنين به.
وهذه المقدمة تغريك بأن الرجل يتوافق مع حقيقة هذا الدين، يعني: أنه يشمل كل مظاهر الحياة، لكنه يقول: ولكنه امتداد عناية ورعاية وتوجيه، وليس بالضرورة أن يكون امتداده امتداد اختصاص وتدخل مباشر بالتنظيم وتقديم الحلول النهائية الثابتة! وما معنى أن يكون امتداد الإسلام هو امتداد رعاية وتوجيه؟ يعني: أن الإسلام يقول لك: أحسن في معاملتك، ويقول للمسلم: أنت ينبغي أن تكون مثالاً للتسامح، وأنت ينبغي أن تكون رمزاً للسلام؛ هذا معنى أنه يدخل في نطاق الحياة الاجتماعية والسياسة، ولكن في ظل رعاية وتوجيه عام، وليس في ظل امتداد نظام محدد وأحكام مشروعة.
ولذلك يتضح هذا الأمر جلياً عند هؤلاء القوم، إما بصراحة سافرة وإما بالتفاف حول الأمر من غير أن يكون هناك بعد أو من غير أن يكون هناك اختلاف في حقيقة المضمون.
والشريعة يصورونها أننا بعد تطبيقها سنجد نصف المجتمع مقطعي الأيدي، وثلة منهم مرجومين، وبعضهم مجلودين، وغير ذلك! والذي يتصور هذا في الحقيقة إنما يثبت التهمة على نفسه؛ لأن الإسلام لا يقطع إلا يد السارق، ولا يجلد ولا يرجم إلا الزاني، ولا يجلد إلا شارب الخمر، فالذي يتصور أن المجتمع سيتحول إلى مشوهين وذوي عاهات فإنه يحكم على المجتمع الذي يعيش فيه بأنهم شاربو الخمور، وأنهم زناة، وأنهم سارقون، وأنهم وأنهم؛ لأن الإسلام ما جاء بهذه العقوبات إلا في هذا الجانب.
يقول خلف الله -وهو أكثرهم جنوحاً عن الحق وأكثرهم أقوالاً كفرية-: إن خروج المعاملات من نطاق الشرع إلى نطاق القانون قد حقق لها ألواناً من الحرية والانطلاق لم يكن لنا بها عهد من قبل! يعني: أن هذه الأنظمة في المعاملات لما خرجت عن نظام الإسلام تطورت، وأصبح لها مرونة وحرية، وقدمت بشكل جيد وحسن، ولذلك يقول: إن الشريعة كانت -والعياذ بالله- تعوق الإنسان عن الغوص في ميادين الفضاء والأجواء وميادين البحار! وأيضاً نجد أن هذه القضية تتصور في أمور أخرى حينما نجد أن الأمر يغتال قضية التاريخ الإسلامي؛ لأن التاريخ الإسلامي يمثل تطبيق الشريعة في معظم فترات التاريخ، كما سيأتي الحديث عنه.
لكننا نجد أن هؤلاء يصورون القضية تصويراً آخر؛ فيجعلون النظام والحكم للإسلام الذي طبق أو الشريعة التي طبقت إنما كانت صورة من صور الجمود، وصوراً من صور التخلف.
يقول محمد جابر الأنصاري: إن هذا المجتمع العربي المتحضر اقتحمته الموجة الرعوية العثمانية القادمة من سهول آسيا الصغرى بالغزو المباشر، فقطعت استمراريته الحضارية ونموه الاقتصادي والإنتاجي، كما فعلت الموجة التركية الأولى في عهد المعتصم بالمجتمع العربي.
لذلك القضية التي ينبغي للمسلمين التنبه لها هي: أن حكم الخلافة وأن حكم التشريع الإسلامي كان نعمة وخيراً ووحدة للأمة، وهذه القضية المهمة تواجه هذا العداء لهذا الغرض! ولذلك هذا الكاتب يتعجب من المحاولات العجيبة التي تحاول إعادة الاعتبار للتاريخ العثماني ولتاريخ السلاطين الأتراك في العالم العربي الإسلامي؛ باعتبارهم رموزاً للجامعة الإسلامية وللكيان الإسلامي الواحد، وهذا المنحنى التاريخي الجديد للثقافة العربية الإسلامية المعاصرة مرده إلى إخفاق في الحركات القومية والتقدمية التي ثارت على الخلافة العثمانية.
وشاهد الحال أننا نجد أن أمثال هؤلاء يركزون على قضية مهمة، وهي: أن تطبيق الشريعة سيأتي بقضيتين خطيرتين لا وجود لهما في الواقع، والقضية الأولى ذكرناها وهي: إقامة الحدود، والقضية الثانية ما يسمونه بإقامة النعرات الدينية أو الفتنة الطائفية بين المسلمين وغير المسلمين.
وعلى هاتين النقطتين يقوم أساس حديثهم، والكلام الذي يخوضون فيه في هذا الجانب.
وخلاصة القول: أنهم يريدون من هذه القضية أن يبعدوا الإسلام عن التطبيق؛ وذلك من خلال جوانب ثلاثة: الأول: أن قضية التشريع ليست محددة المعالم، وليست مطلوبة بشكل ديني.
الثاني: أن هذه الشريعة فيها من الأمور التي كانت تناسب العصر في وقت مضى، ولكنها لا تناسب في عصور أخرى.
الثالث: أن تطبيقها يؤدي إلى سلبيات وإلى مخاطر يصورونها للناس في هذا الجانب.